أقلام حرة

الدكتور منعم سنون يكتب : "أثر البيان النبوي في بناء المفاهيم وتصحيح التصورات"

playstore

أثر البيان النبوي في بناء المفاهيم وتصحيح التصورات

 

pellencmaroc

   الناظر في الكلام النبوي والمتأمل في أنواع خطاباته؛ يلحظ حضور سمات الفصاحة والوضوح، وبراعة الأداء بأوجز الألفاظ وأخصر العبارات، وقوة سبك تركيب الخطاب، وحسن تنظيم فقراته، وغزارة مضامينه بالإشارات والتلميحات فضلا عن التنصيص والتصريح، بما تتحصل معه الفائدة والإفادة لمختلف الشرائح والطبقات من الناس، كيف لا وهو الذي أوتي جوامع الكلم، ولا ينطق عن هوىr.

   ومضامين خطابهr تحوي وجوها من البيان بمراتبه المعلومة لدى الأصوليين، بيد أن اللافت للنظر هو حصول عملية التخلية والتحلية للمتلقي، والمقصود بهما نفض الغبار عن مبدأ التسليم الظاهري للمعاني، وانحصار الفكر عند الوقوف على حرفيتها، وفي المقابل تطلب الأمر ترويض العقول، وشحذ الهمم والفهوم على ضرورة التحلية بروح المعاني بعد فقه المباني، من خلال استيعاب الخطاب الظاهري والمقاصدي في آن واحد.

   هذا المسعى التربوي، والتعليم المنهجي، والقصد التنموي بالفكر البشري إلى مصاف أولي النهى؛ هو ما صنعه رسول اللهr ببيانه لأحكام الشريعة وأخلاقها وعقيدتها وسلوكها، وبيانهr شمل أنواع البيان القولي والفعلي والتقريري، وبشتى أضربه المنطوق والمفهوم والمعقول والمنظوم.. إذ الألفاظ في المنظومة الإسلامية أصبحت تتمتع بدلالات شرعية زائدة عن الدلالات اللغوية والعرفية، فوجب بذلك أخذ المسألة بالحسبان.

   فالمتفحص بإمعان في بياناتهr عقيدة وشريعة وسلوكا، يلحظها تعتني بالشخصية الإسلامية أصالة، بقصد تخليصها من الشوائب، وتصفيتها من الدخيل، وغربلة مفاهيمها المحدودة البسيطة، رغبة في الرقي بها إلى مراتب الرفعة والسمو، من خلال لحظ مقاصد الفكر والروح، بما تحقق معه معاني القيم والمثل العليا المبثوثة في الملة.

   فكثيرة هي الأحاديث التي وجه فيها رسول اللهr فكر الصحابةy إلى ما يتعلق بما يخدم الغرض والغاية، ويرجى من وراء بحثها ثمرة علم أو عمل، ولأجل ذلك صحح تصورات عن معان، وبنى مفاهيم جديدة على رؤى تربوية عالية نظير، بيان مفهوم البخل، والإفلاس، والكيِّس، والغنى، والقوة، والغضب، والأمانة، وصفة المسلم..

   فهذه المفاهيم وغيرها؛ كان الصحابةy يفهمون معانيها بسليقتهم العربية، وفصاحة لسانهم وحلو منطقهم، غير أن بياناتهr حملت الجديد؛ المتمثل في إعادة النظر في مفهوم المصطلحات والنظم الأخلاقية والتشريعية، التي فاقت معانيها الظاهرة المفهومة لدى السامعين إلى معان راقية نفيسة، تجمع بين مقاصد الروح والجسد، والفكر والحس، بحيث لكل مفهوم معنى ظاهري محسوس، وآخر باطني مفهوم، وبالجمع بين القراءتين تتحصل المعاني الحقيقية للمفاهيم، وترتقي النفوس إلى مراتب الرفعة والسمو، والتألق والتخلق بالأحسن. 

  وهذه الورقة المختصرة تروم تسليط الضوء على هذه القضية النفيسة، التي يمتاز بها الخطاب النبوي، من خلال ثلاثة مداخل أساس، أولها: نخصصه للحديث عن خصيصة التكامل لأحكام الشريعة الإسلامية، والثاني: نخصصه للحديث عن جمالية الصوم وشمولية معنى الإمساك، والثالث: نخصصه للحديث عن آفة الغضب وسبل معالجتها في الخطاب النبوي، فأقول وبالله التوفيق:

أولا: خصيصة الشريعة الإسلامية:

   من المعلوم أن للشريعة الإسلامية جملة خصائص مهمة، ومن بينها خصيصة نفيسة؛ مُتعلقها تميزُ الشريعة الإسلامية بمنظومة متكاملة متناغمة، مترابطة فيما بينها متراصة في عقد لؤلؤ بهيج، يتداخل فيها الجانب العقدي بالجانب التشريعي، فالجانب الأخلاقي السلوكي.

فالأول: اعتقاد وإيمان بالقلب، وتصور وعلم يقين بالأمر، والثاني: تصديق بالاعتقاد وعمل بالأقوال والأفعال وسائر التصرفات، والثالث: هو ثمرة الاعتقاد والعمل، وتتويج للتصور والتصديق، وباعث على تزكية النفوس.

    فلا يمكن الحديث عن أحد هذه الأضرب دون ارتباط بالآخر، ارتباط الدال بالمدلول، واللازم بالملزوم والأصل بالفرع، والكل بالجزء، والمقدمة بالنتيجة.. على اعتبار كون الجوانب الثلاثة المتقدمة آنفا؛ إما منطلقا وأساسا للتصور السليم، أو سبيلا لتحقيق التكليف والالتزام بأحكام التشريع، أو ثمرة وتتويجا للتصور والتصديق.

   والذي يزيد الأمر جمالا وروعة في المنظومة التشريعية السمحة، هو كون الأمور العملية التكليفية واسطة ذالكم العقد من اللؤلؤ البهيج، فكل عمل أو تكليف هو نابع من اعتقاد وتصور سليم بالمنطلق والأساس لهذه العبادة، وتتويجه ونهايته تتجلى في ثمرة السلوك والخلق الإنساني، وهو ما تظهر معالمه في معاملات الأفراد والجماعات.

   وما بين هذه الأسرار والخصوصيات الثلاث، التي غفل عنها البعض لاستحكام العادة المألوفة، وافتقاد استحضار حقيقة العبادة المطلوبة؛ تتضافر زمرة غير يسيرة من المقاصد والغايات، التي تتوخى الرقي بالنفوس من الظواهر إلى الحقائق، والعمل على تزكيتها بالتحلية والتصفية، والسمو برفعتها إلى أعالي القيم الأخلاقية السامية، وهو الأمر المقرر في الشريعة السمحة ببيان غايات التشريع، وإيضاح حسن الأخلاق، وسلامة الاعتقاد.

     فوجب الجمع بين هذه الخواص الثلاث، للتحقق بروح الإسلام، لذلك قال الفقهاء قديما:“من تفقة ولم يتصوف فقد تفسق، ومن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقق”[1]، وبالنظر لأحكام الشريعة ونصوصها؛ يلحظ الحضور الجلي لهذه الخوص، والتأكيد الحثيث عليها فهما وعملا، وتصورا وتصديقا.

    وكثيرة هي التشريعات، التي تتفيأ ظلالها الوارفة ضمن هذه الفلسفة الشمولية العامة؛ المحاطة بمقاصد ابتداء وانتهاء، بحث تظهر معالم التعليل بادية في كل تشريع عقدي وتعبدي ومعاملاتي جملة، فالتشريعات الاعتقادية والتعبدية هي الأخرى معللة بحكم وغايات وأسرار؛ تتجلى في نصوص تشريعها، التي تختتم غالبا بقصد وجوب الامتثال والانقياد والطاعة للرحمان وتحقيق التقوى، والتذكير، والفلاح، والصلاح، والارتقاء بالعقل والقلب إلى مصاف الشهود.. لأن الشريعة:”أحكام تنطوي على مقاصد ومقاصد تنطوي على أحكام”[2].

ثانيا: جمالية الصوم وشموليته لمعان الإمساك:

   من العبادات والتكاليف المفروضة على العباد، عبادة الصيام أحد الأركان الخمسة للإسلام، وواحدة من التكاليف التي كتبت على سائر العباد في كل الشرائع والأديان، فالناظر في هذه العبادة من حيث مشروعيتها، وتعريفها، وشروطها، وأحكامها، وبيان صفاتها، وكشف حقيقتها؛ يجدها تصب في تحقيق غايات ومقاصد مصداقا لقولهI:) يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ([3].

    فعبادة الصوم تربي النفس على صفات وخصال حسنة، وقيم أخلاقية ونظم سلوكية عالية الشأن، مطلوب استحضارها كل وقت وحين، وبعض تعاريفه عند الفقهاء[4] غير مقتصرة على كبح جماع شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فحسب، بل كبح جماع الجوارح عامة من قول وفعل واعتقاد مطلوبة هي الأخرى لصحة الصوم كاملا، فمقصد الآية الكريمة ظاهر في تحقيق التقوى، والأحاديث النبوية في ترك شهادة الزور والكذب وإذاية الجار والمسلمين.. خير دليل.

   هذه العبادة العظيمة، تكتسي أهمية كبيرة، وفضيلة شريفة، وتحوز على مقاصد جليلة، وغايات نفيسة، وتشتمل على مكانة دقيقة بين سائر التشريعات، حقيقة بأن يصونها المسلم ساعة امتثاله لفعلها وفي زمن التعبد بها، غير آبه بما ينغص على القلب بهجتها، وعلى الروح حلاوتها، وعلى النفس سكينتها وطمأنينتها.

   فأهمية عبادة الصيام، وبيان فضلها، وتمييز أنواعها، وتجلية أزمنتها الموزعة على مدار السنة والدهر، فيها نصوص كثيرة، تفي بالغرض بيانا وشرحا، غير أني أود الوقوف مع أحد نصوص فضيلتها الخاصة بها دون سائر التكاليف الأخرى في الملة، وهو قول المصطفىr:«كل عمل ابن آم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به»[5].

   ذلك أن كل العبادات قد يخالطها شيء من الرّياء والسمعة؛ لإمكانية اطلاع الناس عليها فعلا، كما أنها ظاهرة وجلية أداء بمقتضياتها، بينما الصيام هو بين العبد وربه خفية لا أحد يطلع على حقيقة فعله وامتثال شروطه إلا الله، لذلك اختصهI بالأجر، كما اختص بابا في الجنة يسمى الريّان[6].

  ولخصيصة هذه العبادة التي تمتاز بصفة إضافتها للهI إضافة تشريف وتعظيم بأن اختصهاI بتقدير أجرها وثوابها، الذي لا يعرفه لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهي عبادة تحقق مرتبة الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهو غاية المراتب وأسمى المقاصد، التي جاءت بها الشرائع والديانات.

   وأما عن مقاصده وغاياته، فيظهر من الآية الكريمة أن الصيام شرع للتقوى، وهي كلمة جامعة لمعان الخير والفضل والطاعة والامتثال، والصائم بصومه ترتقي نفسه من مرتبة المخلوقات البشرية الترابية إلى مرتبة المخلوقات النورانية التي لا حظ لها في متع الدنيا من مأكل ومشرب ومنكح وتمتع، فالصائم يقترب إلى هذه المرتبة وصولا وتحققا، بل يتوفق بفضل كبح جماع شهواته السالفة، التي هي مرتكزة في نفسه وجبلته التي فطر عليها، ومقاومة حظ الشيطان من نفسه الذي يجري منه مجرى الدم من الجسد، بخلاف الملائكة التي خلقت للطاعة والعبادة.

   وأما عن مكانة الصيام بين سائر التشريعات؛ ففضلا عن كونه أحد الأركان الخمسة التي بها يكون للمسلم قوام إسلاميته وتحقق مرتبة إيمانيته بالله، فإن عبادة الصيام تظهر مكانتها ومرتبتها التشريعية في أداء كفارات اليمين، والظهار، وقتل الخطأ، وانتهاك حرمة رمضان، وجبر ما نقص من واجبات الحج، فكلما عجز المكفر عن أحد الكفارات لجأ إلى الصوم، واختصاص الصوم بهذه المرتبة يدل على مكانته وعظم فعله عند الرحمان، كما تتجلى مكانته في قضائه من الحائض والنفساء بخلاف الصلاة، وهي مقدمة عليه من حيث ترتيب الأركان.

   بل للصيام قدسية وسرا بديعا في نفوس عامة الخلائق، وهيبة ووقارا ربانيا لهذا الشهر العظيم، باعتباره مدرسة تربية وتزكية للنفوس، فلا أحد يستطيع المجاهرة بذنوبه وأخطائه على العلن، وما ذلك بنفاق كما يعتقده البعض، وإنما هو توقير لحرمة شهر الصيام والقيام، وشهر القرآن والفضائل والنصر.

   وفوائده عدة تشمل ما هو ديني ودنيوي وصحي وتعبدي، والدراسات والأبحاث المعاصرة تثبت هذه الفوائد الصحية للأبدان مع ضميمة تحقق الراحة النفسية والسعادة القلبية من امتثال الطاعة الربانية.

ثالثا: آفة الغضب وسبل معالجتها:

   لتحقيق ما تقدم من غايات ومقاصد عبادة الصيام، وتمثل قيمها النفيسة وآثارها الزاكية؛ ينبغي الحرص عليها، والمحافظة على جماليتها من خلال تجنب ما يعود على فعلها بالبطلان والفساد، وعلى فاعلها بإحباط عمله.

   وتعتبر آفة الغضب أخطر عدو على المسلم في نهار رمضان، وأول مفسد لصيامه من حيث الجانب المعنوي، الذي يفقد الأجر والثواب، وقد يرقى لبطلان الصيام حقيقة، فالغضب من الصفات المذمومة، والآثام المدمرة التي ينبغي على المكلف تجنبها؛ لما تحمله من مصائب وزلات لا تحمد عقباها على الفرد والجماعة، ويزداد الخطب جللا بعبادة الصيام في شهر رمضان، شهر الصبر والقرآن، والصيام والقيام، والعتق من النيران.

   وما نلاحظه في واقعنا اليومي من وقوع أحداث وجرائم ومصائب ونكبات في نهار رمضان وليله، مما تعج به الأخبار والجرائد، وتصدع به سائر وسائل التواصل الاجتماعي مما يندى له الجبين في مجتمعات إسلامية، وهما من أزمنة الطاعة والعبادة والعمل والجد، وفيهما من نفحات الرحمان مما لا يخفى على كل ذي قلب، ويجعل فاعلها تعظم ذنوبه بعظم الزمان والمكان، وكل هذا وغيره يعود بالأساس إلى وقوع الخلائق أسارى لهذه الصفة البغيضة المذمومة، مع العلم أنها من الصفات التي لا تنفك عنها الذات الإنسانية، والنهي بتجنبها لا لبس فيه.

   فعن أبي هريرةt أن رجلا قال للنبي

playstore

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WeCreativez WhatsApp Support
فريق صفروبريس في الاستماع
مرحبا