أقلام حرة

أحلام تفتقر إلى ترخيص(1)

playstore

   تسلل شعاع شمس دقيق عبر زجاج النافذة الوحيدة، في الحجرة الضيقة.. وداعب للحظات وجه الكهل الأسمر الراقد بهدوء على الفراش، قبل أن يتململ في بطء وتمتد يده في هدوء تزيح الغطاء برفق، وينهض صاحبها متمشيا على أطراف أصابعه، وهو يلتفت في حنان إلى جسد زوجته الراقد في سلام على الأرض إلى جوار طفليه. ثم وقف متسمرا للحظات، يراقب المشهد الصامت، وعقله يتذكر الليلة الأليمة التي قضتها زوجته تكابد المرض، وساعات السهر المضني التي عانتها مع الألم.. فلم تنعم بالنوم والراحة إلا قبيل الفجر؛ بعد أن زالت آثار الحمى عنها، فخلدت إلى نوم عميق، آثر ألا يوقظها منه وهو يتسلل عبر باب الحجرة الضيق إلى المطبخ الصغير. وبحثت عيناه طويلا عن شيء يسد به جوعه خلال يوم العمل الطويل، دون الرجوع إلى زوجته المريضة، فلم تفلح محاولاته إلا في العثور على كسرة خبز حملها في كيس بلاستيكي مع حبات زيتون أسود. وعاد يتسلل على أطراف أصابعه ليلقي نظرة أخيرة على زوجته التي ظلت على حالها، قبل أن يغادر البيت في اتجاه العمل.

   ألقى التحية بلطف على الوجوه القليلة التي صادفها في طريقه نحو العمل، وتردد لبرهة بين الذهاب إلى العمل وبين اصطحاب زوجته المريضة إلى المستشفى ؛ ثم تذكر أنه أول يوم له في العمل بعد فترة طويلة من البطالة والراحة، وأنه لا يملك حتى ثمن الدواء، فحسم أمره سريعا، وحث الخطى نحو منزل في طور البناء يوجد في آخر الزقاق الضيق. فقد كان يعمل في مجال البناء ويشغل وظيفة عامل بسيط، رفقة المعلم ادريس الذي كان يجلس القرفصاء عند باب البيت، وبيده أعقاب سيجارة تكاد تحرق أصابعه.. فتهللت أساريره وهو يرد تحية الكهل، ومازحه قليلا كعادته معه، قبل أن يلقي إليه ببضع أوامر تخص عمل اليوم؛ راح الكهل ينفذها في نشاط عجيب ـ رغم تقدمه في السن ـ بعد أن أخفى كيس الخبز في مكان آمن من الفئران.. المنتشرة في الأركان.

pellencmaroc

   بعد الاسترسال في العمل أحس بسعادة غامرة.. فرغم التعب الذي يصادفه أثناء عمله، والمشقة الكبيرة التي يتكبدها في إنجازه على الوجه المطلوب.. إلا أنه سعيد، تكاد ابتسامته تنم عما بداخله؛ وربما كان ذلك راجع لكونه أخيرا حصل على عمل بعد أسابيع من البحث المضني. فقد قلت فرص الشغل في هذا الميدان بسبب مشاكل تقنية.. وتأخر كثيرا إخراج تصميم تهيئة لمدينته الصغيرة إلى الوجود. مما جعل منح رخص البناء أمرا عسيرا لا يطيقه كل الناس… وهي أشياء لا يدركها هو بمفهومها الدقيق ، ولا يفهم استمرار التضييق على الناس بسببها؟ وإن كان قد اكتوى هو وأمثاله بنارها لأشهر عديدة. فقد شح المورد، ونضب المدخر، ورحل الكثيرون إلى المدن المجاورة هربا من الأزمة، وبقي هو يعاني في صمت، في انتظار الفرج، وقدوم الغد المشرق.. واليوم هو سعيد، ولا يريد لعقله الساذج البسيط أن يخوض في مثل هذه التفاصيل المعقدة، التي تنغص عليه سعادته وتنعي عليه سروره؛ وتذكره بزمن العسر والتقتير…

    قطع عليه المعلم حبل أفكاره الطويل ، وهو ينبهه لإحضار حبات من الآجر، فامتثل لأمره وراح ينفذه على الفور. ثم عاد يسترسل في العمل بهمة ونشاط وهو يعد خليطا كبيرا من الرمال الدقيقة والإسمنت، صب فيه الماء شيئا فشيئا، وحرك الخليط بالرفش في مهارة وحنكة لتمتزج مكوناته وتتماسك.. ثم مسح عرقا غزيرا تصبب من جبهته، بسبب المجهود الكبير الذي بذله؛ وقد أدرك سببا آخر لسعادته: إنه يكسب قوت يومه بعرق جبينه، وهذا شرف كبيرله ، وفخر لأمثاله.. ذكرته عبارة القوت بجوعه، فنفض يديه وتحسس موضع كيس الخبز عند الجدار؛ فأخرج منه الكسرة وعرض نصفها على معلمه، الذي شكره دون أن يتناول شيئا من كسرته التي راح يقضمها بتلذذ كبير مع حبات الزيتون؛ وعيناه تراقبان المعلم وتطالعانه في صمت وقد اكتفى كعادته بنفث دخان سيجارته دون أن يكون به رغبة إلى الأكل…  يتبع

playstore

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WeCreativez WhatsApp Support
فريق صفروبريس في الاستماع
مرحبا