أقلام حرة

ما لا يجوز السكوت عليه

playstore

سيكون مخزيا ومشينا أن يُفسر صمت مصر إزاء ما تفعله إسرائيل هذه الأيام في غزة باعتباره من علامات الرضى.
لا يقوله أحد أن مصر اطلقت مبادرتها وأدانت العدوان، وانها تستقبل وفودا أجنبية ولا تمل من الجهر في كل مناسبة بأن المبادرة هي الحل، ذلك انني لا أتحدث عن المبادرة ولا عن الاتصالات والحوارات الدبلوماسية التي لا نعرف شيئا عن مضمونها.
انما أتحدث عن موقف حازم يليق بوزن مصر إزاء حوالي 15 مذبحة أقدمت عليها إسرائيل خلال الأسبوعين الأخيرين.
وعن حملة الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، بل انها لم تكتف بقتل البشر والفتك بهم، وإنما ذهبت إلى حد تدمير البيوت والخدمات والانقضاض حتى على المستشفيات، فضلا عن المدارس والمساجد وكل مكان آخر دعت القوانين والاعراف الدولية إلى تأمينه في حالة الحرب.
ذلك أن إسرائيل في غزة لم تستهدف فصائل المقاومة وعلى رأسها حماس والجهاد فقط، ولكنها أرادت ان تحول القطاع إلى جحيم وتقتل الحياة فيه. لذلك فإن مصطلح «العقاب الجماعي للمدنيين» يبدو تعبيرا مخففا ومخادعا، لأن العقاب قد ينزل بالبشر وهم أحياء فيؤلمهم ويضاعف من معاناتهم.
أما ما تفعله إسرائيل فهو يتجاوز بكثير تلك الحدود. إذ حين نرى صور «الشجاعية» بعد تدميرها وبقايا الأشلاء والجثث متناثرة في الشوارع. وحين نرى الأطفال وقد تحطمت جماجمهم وبرزت أحشاؤهم وطارت أطرافهم في الهواء وحين نجد أن عربات الإسعاف وقد قصفت كي لا تحمل الضحايا وتتركهم يتعذبون ويموتون واحدا تلو الآخر.
وحين نرى توابيت الأسر التي أبيدت عن آخرها ولم يبق منها أحد على قيد الحياة، فإن ذلك كله لا يمكن أن يوصف فقط بأنه عقاب جماعي.
لست أتحدث أيضا عن مظاهرات تخرج إلى الشوارع معلنة غضبها واحتجاجها على تلك الممارسات البشعة.
كما هو الحاصل في العديد من عواصم الدنيا. صحيح أنني أتمنى ذلك لكي يسمع الجميع خصوصا في فلسطين صوت المجتمع في مصر المعبر عن رأيه في حملة إبادة «الأشقاء» في غزة، إلا أن ما في ذهني الآن شيء مختلف، ليس لأنني مقتنع بإسكات صوت الشارع وحظر تظاهرات الناس، ولكن لأن تظاهرات المصريين في الوقت الراهن باتت مغامرة كبرى، تكلّف المشاركين فيها أثمانا باهظة، حيث تلاحقهم أحكام السجن المشدد والغرامات المالية الباهظة التي ترهق الأهل وتذلهم.
ما أتحدث عنه وأتمناه الآن أن يصدر عن القاهرة موقف رسمي حازم مشرف في وضوحه وتحيزاته. أقصد ان يصدر بيان قوى يدين الجرائم الإسرائيلية ويرفضها على الملأ.
إن إسرائيل بغاراتها على المدنيين تجاوزت كل الحدود والأعراف، ولذلك فإن مصر قررت استدعاء سفيرها للتشاور حول الوضع الراهن. وأنها تتمنى ألا تلجأ إلى إجراءات أخرى تمس العلاقة بين البلدين في حال استمرار العدوان الإسرائيلي.
تمنيت أن تطوي مصر صفحة الموقف الملتبس الذي عبرت عنه بيانات سابقة تحدثت عن «العنف المتبادل» وطالبت بوقف «الأعمال العدائية» التي يمارسها الجانبان الإسرائيلي والفلسطيني، وحتى إذا قيل إن مثل تلك البيانات صدرت قبل أن تتطور الحملة الإسرائيلية من عدوان ظالم إلى إبادة صريحة، فإن الحاصل الآن يستدعي خطابا آخر يتبني موقفا أكثر حزما، ويتجاوز الكلمات إلى الإجراءات. أدري أن وزارة الخارجية خطت خطوة ايجابية نسبيا ببيانها الذي أصدرته في 18/7 وأدانت فيه «التصعيد الإسرائيلي الأخير في العمليات العسكرية» ودعتها إلى وقف أعمال العنف والاجتياحات البرية، وحملتها المسؤولية القانونية تجاه حماية أرواح المدنيين باعتبارها قوة احتلال، كما طالبتها بالامتناع عن أساليب العقاب الجماعي والاستخدام المفرط وغير المبرر للقوة. وانتهى البيان إلى دعوة كل الأطراف المعنية بالقبول الفوري وغير المشروط للمبادرة المصرية.
رغم أنه إيجابي وأفضل من سابقيه، إلا أن البيان بدا ناصحا ومدافعا عن المبادرة بأكثر من دفاعه عن الشعب الفلسطيني في غزة. وإذا قارنت لغته الدبلوماسية والقانونية بالتصعيد المجنون الذي حدث بعد ذلك، فستجد أن إسرائيل لم تأخذ البيان على محمل الجد، فتجاهلته واستخفت به، الأمر الذي كان يستوجب استخدام لغة أخرى من جانب مصر، حدها الأولى أن تسحب سفيرها من تل أبيب.
لا أتجاهل توتر العلاقات وتسميمها بين القاهرة وحركة حماس، الأمر الذي أدى إلى انسداد قنوات الاتصال بين الجانبين، في حين انفتحت تلك القنوات مع إسرائيل، وتلك من علامات الساعة الصغرى.
كذلك فإنني لم أجد تفسيرا مقنعا لمنع وفود الأطباء التي جاءت من عدة دول لعلاج الجرحى المحاصرين. كما أنني لا أريد أن أصدق ما يتردد عن اساءة معاملة الجرحى الفلسطينيين الذين سمح لهم باجتياز معبر رفح واخضاع بعضهم للتحقيق والاستنطاق. كذلك لا أريد أن أصدق ما يشاع عن فضيحة إرسال أغذية منتهية الصلاحية من مصر إلى غزة.
لكنني مستعد للتغاضي عن كل ذلك مؤقتا مقابل الحفاظ على وضوح الرؤية الاستراتيجية التي تعتبر الدفاع عن غزة ليس دفاعا عن الفلسطينيين وحدهم، ولكنه دفاع عن الأمن القومي المصري في ذات الوقت. وان نضال غزة لا يصون عن استقلال وكبرياء الشعب الفلسطيني وحده، ولكنه دفاع عن حدود مصر الشرقية أيضا، من هذه الزاوية فإن السكوت على تدمير غزة وافتراسها من جانب إسرائيل يظل في الوقت ذاته تفريطا في استحقاقات الدفاع عن أمن مصر ذاتها وأمن الأمة العربية أيضا، لذا لزم التنويه.

sefroupress
playstore

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WeCreativez WhatsApp Support
فريق صفروبريس في الاستماع
مرحبا