لعل جائحة كورونا من الفرص الاستثنائية التي وحدت المنتظم الدولي على اختلاف مرجعياته الفكرية والسياسية ، ورسخت لمبدأ المصير المشترك لسكان العالم قاطبة ، كما تعتبر لحظة لإعادة تشكيل رؤى جديدة بعيدا عن منطق القوي والضعيف ،والكبير والصغير ، والشرق والغرب إلى غير ذلك من التصنيفات . ولذلك سنحت فرصة قد لا تتكرر لقراءة اللحظة وما ستفرزه في القادم من الأيام .
ومما لاشك فيه أن هذه الجائحة تبعث برسائل قوية إلى البشرية جمعاء قصد قراءتها واستخلاص ما يمكن استخلاصه من دروس وعبر .
وقد ارتأيت في هذه الفسحة أن أستعرض بعضها تاركا للقارئ فرصة التدبر فيها .
1ـ كورونا ضمن المحن والشدائد:
إن الشدائد والمحن في المعتقد الإسلامي ابتلاء من الله مثلها في مثل النعم (ونبلوكم بالشر والخير فتنة).
تكون المحن والشدائد نعما يغفر بها الله ذنوب العبد (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكّها، إلا كفّر الله بها من خطاياه ).
والمحن والشدائد هي جزء من حياة الشعوب والأمم لم تسلم منها أمة منذ آدم عليه السلام إلى الآن وربما إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، والتاريخ يقدم نماذج لأمم عاشت كوارث ومصائب حلت بها ، منها ما قضى عليها تماما كعاد وثمود ، ومنها ماخرج منها قويا معافى زادته صلابة وكانت انطلاقة في إعادة بنائها .
هذه الشدائد والمصائب تكشف معادن الناس وطريقة تعاملهم معها، فمنهم من يراها نهاية العالم ومنهم من يراها مقوية لمناعته (الضربة التي لا تقتل تزيد صاحبها قوة)
وتعلم الإنسان وتدربه على الحكمة وتقوي عضده : مثل ألماني ( الشدائد أم الحكمة ).وقوله صلى الله عليه وسلم (ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة ).
2ـ محن الأنبياء والصالحين
ولعل الأنبياء والصالحين والعظماء أشد الناس بلاء :
يقول الدكتور النابلسي حفظه الله : (المصائب أنواع :
مصائب الأنبياء كشف لكمالاتهم ،ومصائب الصالحين دفع لهم في طريق الإيمان، ومصائب المعرضين مصائب ردع وقصم )
جاء في الحديث النبوي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله رسول الله : أي الناس أشد بلاء ؟ فقال : الأنبياء والصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه ، وإن كان في دينه رقة خفف عنه وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض وما عليه من خطيئة ) رواه أحمد والترمذي وصححه .
وفي رواية عن أبي سعد قال «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محموم فوضعت يجدي من فوق القطيفة ، فقلت
ما أشد حُمّاك يا رسول الله، قال: إنا كذلك معشر الأنبياء يضاعف علينا الوجع ليضاعف لنا الأجر، قلت: أي الناس أشد بلاء ؟ قال : الأنبياء ثم الصالحون ، لقد كان أحدهم يبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا عباءة يجَوّيها ـ أي يخرقها ويقطعها ـ فيلبسها ويبتلى بالقمل حتى يقتله ، ولأحدهم كان أشد فرحا بالبلاء من أحدكم بالعطاء».
3ـ استحضار الله في حساباتنا
عندما نستقرئ التاريخ الإسلامي وما مر بالمسلمين من لحظات عصيبة ، وكيف تعاملوا معها نقف على حقيقة صارخة تتمثل في أن المسلمين حين استحضروا الله في حساباتهم تغلبوا على
المحن والمصائب رغم قلة ذات اليد ،فقد انتصروا على قلتهم حين التجؤوا إلى الله في غزوة بدر. « ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة»
روى مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى المشركين، وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله – صلى الله عليه وسلم – القبلة، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: “اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض” فما زال يهتف بربه ماداً يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك[2].. الحديث.
وفي المقابل حين تباهوا بأنفسهم واستبعدوا الله من حسابهم كانت الهزيمة في حنين. لأنهم قالوا (نحن). قال أحدهم (لن نغلب اليوم بكثرة) .قال تعالى:
(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25)
في المحصلة فإن الذين استحضروا الله تولاهم فانتصروا والذين قالوا (نحن) تخلى عنهم .
4ـ في الحاجة إلى التدين الحقيقي
التدين في معناه الحقيقي هو تطبيق عملي للدين وفق الفهم الصحيح .
معنى هذا أن الحاجة أصبحت ملحة أكثر من أي وقت مضى أن يرى الناس الدين في حياتهم و واقعهم ، معنى ذلك أيضا أن نميز بين التدين التعبدي ( صلاة ،صيام ،……..) و التدين المعاملاتي الذي يظهر في سلوكنا مع الآخرين .
نحن بحاجة إلى أن تظهر قيم التضامن ،والتكافل ، والإيثار ، والأخذ بيد الضعيف ، وكفالة اليتيم ، ومساعدة الأرامل ، والإنفاق بدون انتظار جزاء ولا شكور.
يقول سبحانه وتعالى :
(أنْفِقُوا ممَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ).
فالإنسان يتمنى أن يؤخر لأجل قريب لا ليصلي ولا ليصوم ،ولا ليحج ، وإنما لينفق ويتصدق لأنه يعرف أجر المنفقين رأي العين .
5ـ كورونا جائحة وليست وباء
حسب مركز السيطرة على الوباء والوقاية منها :الوباء epidemie هو تفشي المرض وانتشاره بسرعة ، ويؤثر على عدد كبير من الأفراد في وقت واحد ، يحدث هذا التفشي عندما تزداد الحالات المصابة بالمرض بشكل سريع على مستوى مجتمع محلي أو منطقة جغرافية واحدة قد يمر دون أن يعرف به أحد إلا عندما يكون على اتصال مباشر به.
بينما الجائحة (pandemic)أو الوباء العالمي مشتقة عن الوباء كأن يصيب كوكبا بأسره تكون الغالبية العظمى معرضة للعدوى كما في كورونا. والجائحة تؤثر على أكبر عدد من الأفراد وعادة ما تكون بسبب فيروس جديد أو غير مألوف وتسبب مشاكل مجتمعية و أمنية وخسائر اقتصادية وكثيرا من الوفيات .
بهذا المعنى فإن المجتمع الدولي في سفينة واحدة بحيث تغيب كل الاختلافات من عرق وجنس ، ولون ودين ،ويعود الحديث
عن الإنسان باعتباره إنسانا فقط أمرا مُلحّا. باعتباره هو الأصل وأن الأرض تتسع للجميع، وأن المصير مشترك وجب فيه التعامل بمنطق إنساني لا بمنطق القبيلة والعشيرة، وبقناعة راسخة أن العدو واحد لا يميز بين أمة وأخرى .