أن يقف محمد الفيزازي أحد رموز ما درجت الصحافة على تسميته في البلاغة السائدة بعد أحداث 16 ماي 2003، بشيوخ «السلفية الجهادية»، أمام أمير المؤمنين لإلقاء خطبة الجمعة، خلال الأسبوع الماضي، أمر لا يدخل البتة في الدارج والعادي من يوميات السياسة المغربية.
لقد عرف المغاربة السلفية منذ ثلاتينيات القرن الماضي، ذرعا إيديولوجيا للوطنية المغربية وهي تعيد تعريف هويتها تحت محك الاستعمار الأجنبي، ثم تابعوا عودتها المُجلجلة تحت جلباب الجهاد والتطرف، بعد أحداث شتنبر 2011، قبل أن يعاينوا تحولها إلى فاعل أساسي ضمن مشهد ما بعد الربيع العربي في ساحاته الأساسية سواء في تونس أو في مصر.
عندما ضرب الإرهاب الأعمى الاستثناء المغربي عام 2003، تحت ذهول الدولة وصدمة المجتمع، وأمام عدم قدرة الأجهزة الأمنية عن التوقع الإستباقي للخلايا الإرهابية النشطة، لجأت السلطات – تحت تأثير عجزها المعلوماتي الفادح – بمناسبة معالجتها القضائية لتداعيات الأحداث إلى منطق الاشتباه الجنائي المعمم والواسع، كدليل إضافي على انخرطها في إطار ما عُرف آنذاك بالحرب العالمية ضد الإرهاب.
مقاربة أمنية، لا شك أنها صوحبت بالعديد من التجاوزات الممنهجة التي مست الحق في المحاكمة العادلة، وهو ما سيتم استحضاره في الحوار الملكي الشهير مع صحيفة «إلباييس» الإسبانية عام 2005.
اليوم، فإن الوجه الحقوقي وحتى الإنساني لملف السلفية، يرتبط بوجود ما يناهز 600 معتقل على خلفية الأحداث المذكورة، وهذا ما ساهم خلال الشهور الماضية في تبلور مبادرة إنسانية من طرف ثلاث جمعيات حقوقية وفاعلين من مشارب سياسية مختلفة بهدف العمل على خلق فهم مشترك لمختلف الإشكاليات العالقة ذات الصلة بالحالة السلفية، في أفق تقليص التوترات والتقاطبات الفكرية الحادة داخل المجتمع، والتحفيز على الإدماج الإيجابي لها في الحياة العامة، عبر محاولة إيجاد تسوية شاملة ومتعددة المستويات ومتوافق عليها بخصوص السلفيين المعتقلين في إطار قانون مكافحة الإرهاب، كتتويج لمسار تشاوري بين مختلف الفاعلين المعنيين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بتدبير هذا الملف.
وإذا كانت هذه المبادرة قد حددت أهدافها في العمل على التأسيس لسياسة تصالحية تصحح الوضع المتوتر بين الأطراف ذات الصلة بهذا بالملف؛ من خلال السعي إلى إطلاق سراح معتقلي السلفية ممن لم يتورطوا في العنف أو في جرائم دم؛ وتمتيع باقي المعتقلين، على مستوى وضعيتهم بالسجن، بالحقوق والواجبات كما هي متعارف عليها في القانون وفي المعايير الدولية ذات الصلة؛ مع إعمال مبدأ التأهيل الاجتماعي والمصالحة، مع المعتقلين السلفيين المفرج عنهم..
في المقابل، فإن نظرات أخرى حول الملف، تستحضر حججا مضادة تنطلق من رصد لحظات العنف والشغب التي عرفتها بعض السجون خاصة عام 2011، وتصاعد نسب حالات العود المسجلة داخل المفرج عنهم من معتقلي السلفية، فضلا عن استقطاب ساحات القتال بمبررات «الجهاد» في العراق أو سوريا لعديد من هؤلاء المعتقلين السابقين. ضمن هذا السياق يمكن قراءة خُطبة الجمعة الماضية بطنجة، فإذا كان الحدث على أهميته السياسية ورمزيته القوية، لا يبدو مفاجئا ولا معزولا عن سياق التفاعلات التي شهدتها الحالة السلفية، فانه على الأقل يبدو تتويجا وتكثيفا لتطور ملفت في الأفكار والمواقف والمرجعيات لدى الكثير من قادتها وحساسياتها.
إذ سبق مثلا لبعض رموز الاتجاه السلفي الأكثر شهرة أن انخرطوا في العمل الحزبي من منفذ حزب النهضة والفضيلة، وقبل ذلك كان ممثلو ما يعرف بالسلفية التقليدية قد عبروا بوضوح عن دعمهم الكبير للتصويت الإيجابي على دستور2011، مُغلقين صفحة التوتر الطارئ مع الدولة لفائدة فكرتهم الأصلية حول التعاون المرن مع أولي الأمر.
إن خطبة الفيزازي – حول نِعمة الأمن وفضائل الاستقرار- في مسجد طارق بن زياد دليل شافٍ على نجاح مسلسل الإدماج لجزء من مكونات الحالة السلفية المغربية، ولأنه من المهم التفكير في هذا المسلسل بعيدا عن كونه بديلا مفترضا عن مسار الطي الحقوقي لقضية الجزء الكبير من معتقلي ملف السلفية الذين لم تثبت ممارستهم للعنف، وعبروا دائما عن رفضهم اللجوء إليه، فإنه من المؤكد أن اكتمال الأثر السياسي لهذا الإدماج محتاج بالضرورة إلى مصالحة الدولة – على مستوى هذا الملف – مع العديد من ضحاياها “الجدد”.