أقلام حرة

أبـــو رغــال

playstore

و أنت تجدد صلتك بالسيرة النبوية باحثا عما يكتنف أحداثها الكبرى من دقائق و تفاصيل , يستحوذ على عقلك وقلبك انطباع , سرعان ما يتحول إلى قناعة راسخة , بأنك لست أمام كتابة تاريخية و توثيق لأحداث مضت , بل أمام مرآة عاكسة لما يضج به واقعك اليومي من فواجع و مآسي , خاصة تلك التي يغذيها الخبث الإنساني .

 في خبر أبرهة الحبشي و حملته الخرقاء لهدم الكعبة , يطالعنا نموذج للعربي الخائن , و للتحاسد القبلي الذي لا يتورع عن تحطيم المقدس للانفراد بأسباب القوة , سياسية كانت أو اقتصادية . و الخبر , كما أورده ابن هشام في السيرة , مفاده أن جيش أبرهة لما بلغ مدينة الطائف خرجت إليه ثقيف بزعامة مسعود بن معتب يعلنون ولاءهم . وغالوا في استعطاف أبرهة فقالوا : أيها الملك , إنما نحن عبيدك سامعون مطيعون , ليس عندنا لك خلاف و ليس بيتنا هذا الذي تريد , يعنون بيت اللات , إنما تريد البيت الذي بمكة , ونحن نبعث معك من يدلك عليه ” وكان هذا الدليل هو أبو رغال الذي قادهم إلى المغمس على مشارف مكة , وهناك وافت المنية أبا رغال , وسخط العرب عليه فاعتادوا رجم قبره  !

pellencmaroc

قيل في تبرير هذا الموقف  بأن مرده للتنافس التجاري الذي كان محتدما بين قريش و ثقيف , و أن هذه الأخيرة كانت تحسد قريشا على مكانتها الاعتبارية في وجدان العرب قاطبة , وعلى نفوذها السياسي و الاقتصادي . بل إنها عمدت إلى اتخاذ بيت لأعظم أصنامها , وهو اللات , شبيه ببناء الكعبة !

و الحق أن الخيانة خيانات , وأن المجتمع العربي آنذاك لم يكن نسيجه الأخلاقي متينا إلى الحد الذي تتورع فيه النفوس عن السطو و انتزاع ما في يد الضعفاء بالقوة أو الحيلة . شاهدنا على ذلك ما تمتع به المصطفى صلى الله عليه وسلم من سجايا و شمائل جعلته محط ثقة ومستودع لأمانات القرشيين و غيرهم حتى لٌقب بالصادق الأمين . إلا أن للخيانة حدا لا يحتمل أي مجتمع إنساني أن تتجاوزه , لذا لم يجد العرب , وهم الغارقون آنذاك في وحل الوثنية و الهبوط الأخلاقي , للتعبير عن سخطهم على خيانة ثقيف سوى أن يرجموا قبر دليلها المشؤوم !

و اليوم يطل علينا أبو رغال بسيرته البشعة ليحل في ذوات تحابي و تهادن أعداءها بالتطوع لهدم أسس دينها , وردم ثوابتها و قيمها , و تفتيت مقومات هويتها وحضارتها .

يطل علينا في صورة المثقف حين يتخلى عن دوره النبيل و رسالته القيمية التي زعم أنه منذور لأجلها, فيسحب روحه الناقدة , وقلمه المسائل و المجادل من المعترك ليغازل الانحلال و الاستلاب و قبضة الفساد التي تخنق المجتمع المعاصر . نعم , يصبح “رغاليا” حين يعلن اليوم دون مواربة بأن لا محيد عن طرح عباءة الدين و القيم لعبور الفجوة الحضارية التي تفصلنا عن الآخر , هناك ! وحين ينحاز لمصالحه النفعية فيزكي الأوضاع الشائهة , و يغذي الاحتراب الفكري الحاصل بآراء ومواقف تلتبس معها الأفهام و يُمسي الحليم حيران . فلاعجب أن تكون خيانات بعض المثقفين سببا لجمود الثقافة العربية و انكفائها على نفسها بعيدا عن التحولات العميقة التي يشهدها العالم ,  هذه الثقافة التي يشبهها اليوم المفكر العربي الدكتور سيار الجميل برغوة متحركة فوق المياه الراكدة , سِمتها :

 بطء حركة البحث العلمي , و ضعف الترجمة , و جامعات تمنح الشهادات و الترقيات كما تمنح الحلوى للأطفال !

و يطل علينا أبو رغال في صورة السياسي حين  يُحيل أفق انتظار المواطن بؤسا و يأسا و ضبابا يعيق الفهم و السير . و حين تعوزه الحكمة لتفادي أخطار سياسية فلا يتورع عن إشعال الحرائق في البلد !

إن من يتفحص مفردات الخطاب السياسي الرائج اليوم في بلداننا الإسلامية , و يستعرض صيغ التدافع بين الفرقاء يُدرك حجم الهبوط الأخلاقي و ارتخاص القول السياسي ! فلا مباديء صائنة عن الزيغ , و لا قيم مؤطرة للعبة , و إنما سعي للتواطؤ و الصدام و إفراغ المحاولات الجادة للقلة المُصلحة من بلوغ الهدف الذي يُفترض أن السياسة ترمي إليه , وهو خدمة الإنسان و إدارة المجتمع. بل إن بعض الساسة ممن أعياهم نصب الكمائن  لم يخفوا حماسهم  لدعوة أبرهة الجديد  كي يتدخل في شؤون بلدانهم , و يمنحهم بذلك شرف اصطحابهم  أدلاء في مسيرة الهدم الحضاري !

تنتعش “الرغالية ” إذن في عالم السياسة حين تتوارى القيم و يخبو أوارها , فلا ينفع ذكاء أوثقافة للتقليل من حجم الخسائر . يقول غوستاف لوبون ” يجب ألا ننسى أن حدة الذكاء مهما كثرت والثقافة مهما سمت والرشاقة مهما علت لا تسد فراغا يقع في صفات الخلق الأساسية , و الصفات الخلقية التي تقوم عليها سيادة الأمة هي ضبط النفس و الرزانة و تحمل التبعات و الميل إلى الاتحاد و الحزم و الشجاعة , فإذا ضعفت هذه الصفات عجزت الأمة عن سياسة نفسها وعن منع الأمم الأجنبية عن التدخل في شؤونها ” (1)

و يطل علينا أبو رغال في صورة الإعلامي حين يسحبه بريق الشهرة بعيدا عما تُلزمه به أخلاق مهنته من تجرد وموضوعية وولاء للحقيقة . فيصبح ديدنه خلط الأوراق و التشكيك في النوايا و المبادرات , وتفويت الضمير المهني لمن يدفع أكثر . إن المؤسسة الإعلامية تتقلد اليوم مكانة شبه مقدسة لأن الإعلام لا يقوم بمجرد نقل رسائل لكنه يسهم بشكل جوهري في تكوين الظروف الاجتماعية و الأخلاقية و الوجدانية لتلقي الرسائل (2) وهنا مكمن الخطورة إذا ما انتعشت الرغالية في نفوس القائمين على الصرح الإعلامي . ولعل الأحداث الجسام التي واكبت الربيع العربي قد حررت أذهان الكثيرين من أكذوبة الحيادية و البعد التحرري للإعلام لنقف , وبشكل مأساوي , شهودا على واجهة للخيانة و التدليس .

و يطل علينا أبو رغال في صورة العسكري , و الموظف , و الفنان , و رجل الأعمال  ليرسم لوحة قاتمة لما يؤول إليه المجتمع الإنساني حين ينضب في النفوس معين القيم .

إن الخيانة متوطنة في المجتمع الإنساني منذ الأزل , و قصص اختراقها لنسيج القيم السائدة تملأ رفوف المكتبات . غير أنها لا تكتسي بُعدا ناسفا إلا حين يستمرئها المجتمع , فترتخي قبضة الحماية القانونية للنظام الأخلاقي , و يصبح “أبورغال” عنوان حركة حقوق جديدة  !  

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 – غوستاف لوبون : روح السياسة . دار كلمات عربية للترجمة و النشر . القاهرة 2012 . ص 248  

2- ستيفن كولمان – كارين روس : الإعلام و الجمهور . دار الفجر للنشر . القاهرة 2012  ص 81

playstore

مقالات ذات صلة

‫5 تعليقات

  1. يطل علينا في صورة المثقف حين يتخلى عن دوره النبيل و رسالته القيمية التي زعم أنه منذور لأجلها, فيسحب روحه الناقدة , وقلمه المسائل و المجادل من المعترك ليغازل الانحلال و الاستلاب و قبضة الفساد التي تخنق المجتمع المعاصر . نعم , يصبح "رغاليا" حين يعلن اليوم دون مواربة بأن لا محيد عن طرح عباءة الدين و القيم لعبور الفجوة الحضارية التي تفصلنا عن الآخر , هناك !

    رائعة أخي الكريم هذه الفقرة ،معانيها عميقة جدا جدا،
    نجحت أخي الكريم في التوصيف بدقة متناهية .
    أفخر بك مثقفا وقلما نشيطا وسيلا في فضاء هذه الجريدة الفتية.
    وكل مقال وأنت جدير بالتقدير والإحترام مع يحيات خالو

  2. واصل اسي حميد ولا تنقطع صفروبريس محتاجة إليك في بدايتها العنفوانية التي فرضت قوتها في الإقليم

  3. – يـــا أخـــي حميـد ؛ إن كــان فــي الكأس شـيء مـن دم " أبـــي رغـال "، و شـيء من دمــاء العـرب الحــرة التــي ظلـت ترجمــه علــى خيــانتــه، فـأنــا يهمنـــي النظـر إلـــى الحــيز الذي تشغلــه هــذه الدمــاء الحـرة ؛ لأنهــا هــي الأصـل ، و الحســم ، و الفصــل.
    – قـــال تعالــى : ( إنهــم يكيــدون كيـــدا و أكيــد كيـــدا.. ) صـدق الله العظيـــم.
    – فتح الله علينــا و عليكــم بمــزيـــد مـن الفهــم والعلـــم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WeCreativez WhatsApp Support
فريق صفروبريس في الاستماع
مرحبا