أبناؤنا في زمن كورونا : (1/4)
أهمية اللعب في التخفيف من المشكلات السلوكية والنفسية للأطفال
الدكتور أحمد مزهار
تعد الأسرة البيئة الطبيعية والأساسية التي ينشأ فيها الطفل ويكتسب داخلها مجمل خبراته وتجاربه التي ترسم السمات الكبرى لشخصيته ،ويتشرب منها معايير حكمه على الواقع والمحيط ،فتوجه بذلك سلوكه ومواقفه وقيمه وميولاته ،كما تسهم في تأهيله لمواجهة تحديات الحياة في مستقبله . فكلما كانت السلوكات التي يتبعها الوالدان مع أبنائهم سليمة فإنها تؤثر إيجابا على نموهم العقلي والانفعالي والاجتماعي… ،والعكس صحيح.
يأتي هذا التذكير في سياق ما تشهده الإنسانية جمعاء جراء جائحة كورونا التي فرضت على الأسر – خاصة الأطفال – المكوث في البيوت مدة طويلة إثر التوقيف الاضطراري للدراسة وفرض الحجر الصحي ،إنها فترة استثنائية وغير مسبوقة في حياتهم تثير عندهم العديد من التساؤلات والشكوك والمشاعر ،وتسبب لديهم ضغوطا نفسية تنعكس على سلوكاتهم نتيجة عدم قدرتهم على التوافق والتكيف مع الوضع الجديد .
وتتعد المشكلات السلوكية والنفسية الشائعة في البيوت لدى الأطفال خلال هذه الفترة العصيبة،نذكر من بينها : الحركة الزائدة ،العدوانية خاصة تجاه الأخت أو الأخ الأصغر ،العناد ،العصبية ،قضم الأظافر ،التبول اللاإرادي ،الخوف ،الصمت الاختياري ،الهلع ،الميل الزائد لمشاهدة التلفاز أو استغراق ساعات طوال في اللعب الإلكتروني ،الشعور بالممل والحزن ،اضطراب النوم ،اضطراب الشهية….
إن نقطة الانطلاق للتغلب على هذه المشاكل المحتملة وكسب الرهان وتجنب أية مضاعفات سلبية،هي وعي الآباء بأن فترة الحجر الصحي فرصة ذهبية يجب استثمارها في تحليل ممارساتهم التربوية مع أبنائهم لتصحيح معاملتهم الوالدية ،والـتأمل فيها والإقرار بالأخطاء التربوية السابقة والعزم على تجنبها.
إنها اللحظة التي يجب على الوالدين حسن استغلالها لتحسين العلاقة مع أطفالهم وزيادة التعلق بهم وغمرهم بجرعات من الحب والحنان ،فالطفل لا يحيا بالغذاء وحده فهو يحتاج إلى الود والتقدير والتواصل العاطفي ،كما يحتاج إلى الالتصاق المادي في شتى صوره : تقبيل واحتضان ومداعبة …
إنها الوقت المناسب لاكتشاف ميولات ورغبات الأطفال وكذا نقط ضعفهم ومشاكلهم ،وإعادة الروح للنسيج الأسري عبر بث جو من المرح والمتعة داخل البيت والاستمتاع بهم ومعهم ومشاركتهم ألعابهم . نعم اللعب معهم ،فإذا كان اللعب عند الأطفال في الأوقات العادية كالنوم والأكل والشرب واستنشاق الهواء النقي لا يمكن الاستغناء عنه ،فإنهم أحوج إليه في ظل هذه الظروف.
لقد حان الوقت ليتخلص الآباء من تمثلات سلبية حول اللعب واعتباره نوعا من الجهد الضائع وملهاة عن التحصيل الدراسي ،وأن يقدروا قيمته وإسهاماته في تكوين الشخصية وتنمية مختلف أبعادها ،و تحقيق عدد من الأهداف التربوية .
باللعب يتعلم الطفل أن للحياة قواعد ينبغى الالتزام بها ومراعاتها ،وأن التعاون والنظام والانضباط لقانون اللعبة والإيثار واحترام الآخر والتخلص من التمركز حول الذات …،وغيرها من القيم هي السبيل للاستمرار في اندماجه داخل المجموعة ،وبواسطته يتعلم حل المشكلات ويكتسب روح الفريق ويتدرب على التكيف وبناء علاقات سليمة ومتوازنة ، وعلى أن المصلحة العامة (ربح المجموعة) أولى من المصلحة الخاصة .
و باللعب يتخلص الطفل من الطاقة الزائدة والمشاعر السلبية ويخرجها في صور طبيعية (ضحك ، صراخ، جري ،قفز …) مما يساعده على التخفيف من القلق والتوتر ،فتعزز لديه صورة إيجابية حول ذاته ترفع عنده منسوب الثقة والتقدير وتحمل المسؤولية ،وتكسبه تحفيزا ذاتيا وإحساسا بالتميز وقدرة على الإنجاز.
وعن طريق اللعب يصحح الطفل الواقع ويطوعه لرغباته ،وبواسطته يخفف من آثار التجارب المؤلمة ، وبه يتغلب على مخاوفه المستقبلية ،بل ويساعده على الاستعداد للحياة المستقبلية . فالطفلة في سنواتها الأولى تستعد بشكل لاشعوي للقيام بأدوار الأمومة ،لتلعب بعدها أدوار الأستاذة والطبيبة وغيرها من الوظائف المستقبلية التي تحتاج إلى توجيه ومواكبة من الآباء.
وباللعب يتجاوز الطفل الإحساس بالملل والإحباط ،ويتحرر من قيود الواقع والتزاماته ويتعلم إدارة الوقت وضبط النفس والصبر وعدم التسرع والتخلص من الأنانية وحب الذات ،كما تعد وسيلة فعالة في اكتساب معايير السلوك الحسن والقبيح ،إذ يمكن للآباء الخروج من دائرة الأوامر والنواهي والصراخ والعقوبات من خلال استثمار ذكي لعنصر الإمتاع الذي يوفره اللعب.
والأكثر مما سبق، باللعب نتأسى بقدوتنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم في ملاطفته للاطفال ومؤانسته لهم ،وبمقدار الاهتمام الذي كان يبديه عليه السلام بهم. ومما ورد في هذا الشأن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصف عبد الله وعبيد الله وكثيرا من بني العباس ،ثم يقول :من سبق إلي فله كذا وكذا ،فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلزمهم .أخرجه الإمام أحمد في مسنده.
اختم بمشروع تقدم به مجموعة من أعضاء ”الكونجريس“ الأمريكي في الثمانينيات من القرن الماضي تحت عنوان “العودة إلى عالم اللعب” ، يقضي بتمكين الآباء من قضاء مدة زمنية مع الأبناء قصد اللعب مع تقديم الدعم و التسهيلات ،وتشجيع التعاونيات بين الأسر للعب مع الأبناء ، وإنشاء رابطة للجيران لبرمجة أنشطة مشتركة للأطفال.
فما أحوجنا في زمن كورونا لأن نعود إلى عالم اللعب ونقضي أوقات ممتعة رفقة أبنائنا ، فلنجعل فترة الحجر الصحي لحظات فرح مرسومة في ذاكرتهم ،تحت شعار“من أجل استعادة القدرة على اللعب، من أجل حياة أفضل لأطفالنا ،من أجل شخصية سليمة و سوية“.
ملحوظة : الجزء الثاني لهذا المقال سنخصصه لنماذج من الألعاب المنزلية والعائلية التي يمكن للآباء أن يمارسوها رفقة أبنائهم خلال فترة الحجر الصحي و بعدها.
من إعداد الدكتور احمد مزهار
أستاذ التعليم العالي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين جهة فاس مكناس، الفرع الإقليمي صفرو
عضو مختبر العلوم الإنسانية والتطبيقية
عضو فريق البحث في مناهج تدريس العلوم الإسلامية
رئيس اللجنة العلمية لرابطة الامل للطفولة المغربية
رئيس شبكة القرويين للتنمية والحكامة
منسق الجودة ومسؤول العمليات التربوية والمهنية بجمعية مفاتيح الرحمة للأطفال في وضعية إعاقة
مديرالمخيمات الصيفية
من إصداراته :
التربية الإسلامية والبناء الحضاري
قضايا المرأة بين الخطاب الإسلامي والخطاب الحداثي
