فاس

في ذكرى ملتقى فاس الجهوي الأول للمؤرخين الشباب..

playstore


عبد السلام انويكًة
لفعل المجتمع المدني الرصين والمؤسَّس أدوار رافعة على عدة واجهات وعلى أكثر من مستوى، بما في ذلك ما هو بتماس مع مؤسسات عالمة وفعل أكاديمي يخص تأهيل تجارب ومن ثمة موارد بشرية تأطيرا وتكوينا، بما يسمح بولوج غمار مجالات عدة منها استحقاقات علمية فكرية فضلاً عما هو بعلاقة مع كل تنمية مجتمعية. ولعل من المفيد لكل فعل مجتمع مدني يراد أثراً وفعلاً وتفاعلاً من جهة وقاطرة ببرامج تنموية عملية وظيفية من جهة أخرى، أن يكون بخطة عمل وورش بمعالم واضحة واقعية وفق مدخلات وتدابير ومخرجات، تستمد روحها ودورها وكيانها فعليا وتفاعليا من مرجعية دستورية قانونية، تجعله بادراك جيد لمهامه ولِما يمكن أن يسهم به من اشعاع وخلق وتشارك وتلقيات ضمن حلقات معرفة ومهارات منفتحة مستدامة. ولا شك أيضاً أن من المهم بالنسبة لأي فعل جمعوي استيعاب ما هو بصدده وما مقدم عليه، بتحريكه لوعيه وانتقاله مما هو نظري مغلق وضيق صوب ما هو إنجاز وإنتاج ومن ثمة ما هو منشود من أثر نماء.
وعي جمعوي جهوي تأسس عليه أول ملتقى جهوي للمؤرخين الشباب قبل خمس سنوات، ذلك الذي نظم يوم رابع يونيو سنة ألفين وستة عشر من قِبل جمعية روافد بفاس بتعاون مع جامعة سيدي محمد بنعبد الله بفاس والمدرسة العليا للأساتذة. موعد علمي وجمعوي تأسس على شعار “المؤرخ في قلب نهضة الشعوب” تكريما لعلمين علميين وعميدين مقتدرين، كل من الدكتور عبد الرحمن طنكول والدكتور ابراهيم أقديم. بالمناسبة وفي كلمة افتتاحية بإشارات على قدر كبير من الأهمية الرمزية تجاه المجتمع المدني والباحثين الجدد بالجامعة المغربية وتجاه ما هو اعتراف وتلاقح بين سلف وخلف، تحدث الدكتور عمر صبحي رئيس جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس آنذاك، عما كان عليه المحتفى بهما من جدية أغنت تدبير المؤسسة الجامعية بفاس سواء على مستوى تطوير عرضها العلمي أو من حيث ما هو حكامة فعل اداري وبيداغوجي.
في شق علمي لملتقى فاس الأول للمؤرخين الشباب هذا قبل خمس سنوات، كانت هناك اسهامات باحثين متخصصين عن عدة مؤسسات جامعية مغربية. وكان سؤال الأدب والأديب والبحث العلمي والتجديد وعلاقة المؤرخ والأديب من خلال تجربة كل من الباحثين عبد الله العروي وأحمد التوفيق، وغيرهما ممن اهتم بالرواية والتاريخ، هو ما توزعت عليه ورقة الدكتور عبد الرحمن طنكول عميد كلية الآداب والعلوم الانسانية ظهر مهراز بفاس سابقا ورئيس جامعة ابن طفيل بالقنيطرة آنذاك. أما الدكتور محمد بن هاشم باحث غني عن التعريف وعلامة طبعت الفعل والدرس الجامعي بفاس على امتداد عقود من الزمن، فقد تحدث للمؤرخين الشباب في هذا الموعد عن تفردات مدرسة تاريخية مغربية مقارنة بأخرى عربية اسلامية مشرقية، من خلال قراءته ومقاربته لمسألة الجيل والتاريخ ولنماذج من مؤرخين وباحثين مغاربة تباينت اهتمامهم وتخصصاتهم بين زمن قديم ووسيط وحديث ومعاصر وراهن بحسب أولويات وسياقات عدة ومتداخلة. مع وقفة تأمل له حول ما هو محلي وعام في تاريخ المغرب وما هو جزئي وكلي فيه، دون اغفال جهود واهتمامات استهدفت الرد على انتاج فكري تاريخي استعماري باعتماد مناهج عدة، مؤكدا أن المدرسة التاريخية المغربية كانت بزعامات وأنها في عمقها هي مدارس وليست مدرسة واحدة.
من اسهامات ومداخلات ملتقى فاس للمؤرخين الشباب هذا، تلك التي تقدم بها الدكتور سمير بوزويتة الباحث المجدد والمتجدد عميد كلية الآداب والعلوم الانسانية سايس فاس حاليا، صاحب عدد من الاصدارات العلمية في حقل التاريخ، منها مؤلف “مكر الصورة” و”تاريخ العظام البشرية في مغرب القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين”.. مساهمة تمحورت حول سؤال فعل المؤرخ وتفاعل المؤرخ ومتاهاته، من خلال اثارة جملة سياقات ومكونات من قبيل تمثلات هذا الأخير وانشغالاته عند تأهبه صوب التاريخ، ومن قبيل رهانه من تفاعله مع ثابت ومتحول وذاتٍ وتجارب قائمة. هكذا تم استحضار الانسان كمفهوم مهيكل للزمن التاريخي باعتباره مختبرا منبعا لأسئلة المؤرخ، كذا وعي تاريخي بفترة وسياق وتأثير من خلال تجربة ابن خلدون الذي كتب عبرته قاصدا تجاوز عقبة بلوغ حقيقة تاريخية. حيث ظهر معاصرا برغبة في أن يكون شاهدا على زمن تاريخي بسؤال لا انتماء له زمنا ومكانا، الى جانب السؤال عن علاقة التاريخ بالفلسفة تحديدا عند تحول المؤرخ لفيلسوف، وعندما يكون التاريخ صانعا للمؤرخ والمؤرخ صانعا للتاريخ وأثناء وجود المؤرخ بين حق وماض وحقيقة وسياسة وقيم. ولم يغب عن نقاش المؤرخ ومتاهاته ما يهم تجرده ومهنيته وتماساته وما ينزعج به عن ماض واقع، كذا موقعه من وقائع ماض ومسافات فاصلة وتقييم وبرهانية ووثائق ووارث وموروث.
وعن كلية الآداب والعلوم الانسانية بمكناس في مداخلة علمية لفائدة مؤرخين شباب. تحدث الدكتور رشيد بنعمر عن البحث التاريخي في المغرب، مسارا واقعا حصيلة ورؤية بين السياسي والمهني. مشيرا الى أن البحث في حقل التاريخ كإشكال هو قضية منظومة، وأن بداياته تعود لزمن الحماية بالنظر لِما تم إحداثه خلال هذه الفترة من مؤسسات ومعاهد وغيرها، وأنه بعد استقلال البلاد تأسست أولى الجامعات بكل من الرباط وفاس حيث بدأت اولى الأعمال العلمية الانسانية والاجتماعية. لتتم مناقشة أول رسالة جامعية في التاريخ بالرباط عام 1963 وأول رسالة جامعية في التاريخ بفاس عام 1980. في وقت عانى فيه الباحثون من صعوبة توفيقهم بين البحث والعمل ومن حصولهم على الوثائق كذا ولوجهم لدور الأرشيف. ومما ورد من اشارات في المداخلة ما جاء حول سبل وكيفية حفظ البحوث العلمية الجامعية بدء من بحوث الاجازة، خاصة منها تلك التي تم إعدادها وانجازها خلال السنوات الأولى للجامعة المغربية أي خلال فترة سبعينات وثمانينات القرن الماضي، عندما كانت الاجازة تعادل دراسات عليا حاليا من حيث متنها ومنهجها وقيمتها المضافة. ولم يغب الحديث في ملتقى فاس الأول للمؤرخين الشباب هذا قبل خمس سنوات عن فلسفة التاريخ وأهمية الوثيقة في الكتابة التاريخية، ما تمت مقاربته من خلال مداخلتين قيمتين لكل من الدكتور محمد حجاوي والدكتور لحسن اوري عن جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس.
وبقدر ما كان هذا ملتقى المؤرخين الشباب في دورته الأولى بفاس، موعدا لمطارحات فكرية ومقاربات وقراءات جمعت بين علم ومنهج ومعرفة ورأي ونقد واجتهاد وانفتاح وانصات، وبين سلف وخلف هما في تماس ببحث علمي وتكوين وتأطير لرسم موقع تاريخ ومؤرخ في نماء ونهضة وبناء الشعوب. بقدر ما كان موعدا فكرة وبادرة لإعطاء المؤرخ ما يستحق من اهتمام كفاعل بين ماض وحاضر واستشراف، كذا اثارة انتباه الجميع لفعل وفاعلية فئة مؤرخين هم نخبة مثقفة عضوية لها ذكاءها ورأيها ومقترحها وفهمها ونقدها، ما هو بقيمة مضافة هامة لفائدة كل ورش وتشارك وتحول وإقدام ورهان، من أجل كل سياسة واقتصاد ومجتمع وتواصل وحكامة واستدامة تهم البلاد والعباد. وهو ما ينبغي الوعي به في أية استحقاقات ومهام من شأنها جعل المؤرخ في قلب كل بناء وتنمية وخيار باعتباره مراقبا ملاحظا باحثا ودارسا..
وإذا كان المؤرخ من علامات ومعالم المجتمع التي من غير المفيد القفز عليها وعلى موقعها ودورها ورأيها وإسهامها، لما هي عليه من مزايا وقدرة…لفائدة بعث الأمم واستنهاضها وصيانة تماسكها وبناء صرحها الفكري، فهو بذكائه وتقييمه كضمير مجتمع يظل حاضرا في جميع الاهتمامات والتخصصات الحقول العلمية حقة كانت أم انسانية. ومن جميل ما تم التوقف عليه في ملتقى فاس الأول للمؤرخين الشباب هذا، كون المؤرخين الباحثين المغاربة كانوا بمهام طلائعية ولازالوا سواء في مجال البحث والتأطير والتكوين، أو من خلال اسهامهم في الكشف والتنقيب واماطة اللثام عن جوانب مغمورة وأحداث وشخصيات وجزئيات. بحيث ما كان عليه هؤلاء من جهد وانتاج وتأليف وتحقيق..كان بدور هام لفهم قضايا واكتمال حلقات عدة منها كانت مفقودة. وعليه، فإن من كتب من هؤلاء الباحثين حول تاريخ المغرب فقد كتب حول ما هو هوية ومواطنة ووطنية وذاكرة جماعية.
من هنا ما أثث ملتقى فاس الأول للمؤرخين الشباب من عرفان والتفاتة وشهادة من خلف لسلف، ومن احتفاء وجداني انحبست أنفاسه أحيانا من شدة تأثره بكلمات قوية وتعبير شعر لا كغيره، كيف لا وقد كان شعر عبد الكريم الوزاني وشعر الحسين بوقسيمي ممن سمح أداءهما الشعري بنكهة خاصة لحفل تكريم وتقدير واعتراف بالمناسبة. هذا قبل أن رفع ستار موعد كان فسيفسائيا فكراً معرفة تواصلاً حلماً وعرفاناً، بكلمة ختامية تناول فيها الدكتور ابراهيم أقديم بأسلوب معبر رصين ومتميز أهمية تسلح جيل المغرب الجديد بما ينبغي من ذكاء ورؤية ومعرفة علمية، داعيا المؤرخين الشباب لحمل المشعل بمناعة فكرية ومنهجية وأدوات بحث وأسس شافية لتحقيق الجيد والأجود من أعمال ودراسات وأبحاث. مشيرا الى أن المؤرخ هو بدور هام وجوهري لفائدة هوية البلاد ووحدتها وتماسكها واستمراريتها، وأن الباحثين الجدد بالجامعة المغربية كل من موقعه واهتمامه واختصاصه مدعوون في زمن عولمة وقبل أي وقت مضى لرفع وإغناء ثقافة وحضارة مغربية كانت دوماُ بوقع عبر التاريخ.

عضو مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث

pellencmaroc
playstore

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WeCreativez WhatsApp Support
فريق صفروبريس في الاستماع
مرحبا