صفرو

صفرو التي كانت في خاطري : قراءة في نوستالجيا المدينة في نهاية ستينيات القرن الماضي رحلة في المكان لزمن جميل

صفرو… مسقط الرأس ومرتع الطفولة ومهوى الشباب ،صفرو المدينة العتيقة بأزقتها الضيقة كأنها شرايين قلب ينبض بالحياة.

من المسجد الأعظم ،مركز المدينة ،إلى البوابات الكبرى ،التي تتخلل السور الذي يحيط بالمدينة ،إحاطة الدملج بالمعصم .

من فتحات وشقوق أسوارها القديمة ،تشتم عبق التاريخ ،وحكايات الأمس البعيد ،وأنفاس من سكنوا الديار التقليدية العامرة بأكثر من أسرة وعائلة ،مع حسن الجوار والمودة والرحمة ،وتقاسم الرغيف والخميرة “البلدية” ،والأفراح والأتراح بعفوية وتلقائية ،كأنها اليوم ،واجب فرض وإلزام، تلك مدينتي التي كانت في خاطري.

في كل مسجد وجامع ،في حارة وزقاق،في كل فندق وزاوية ،متى لامست الجدران أوالأبواب، صافحك التاريخ ،وأسمعك خبرا أوحكاية :

وادي أكاي الذي يشطر المدينة إلى عدوتين :عدوة “الشباك وعرصة الدار والبستنة والقصبة” وعدوة “زمغيلة وتاقصبت والملاح وبني مدرك” .

وادي أكاي الذي يسيل منذ الأزل في هدوء وسخاء ،يغدي المساجد والزوايا والمنازل والحمامات ،بماء الطهارة والوضوء ،ثم ينساب ليسقي أحواض الخضر والنعناع ،وبساتين الغلال والأشجار،وخصوصا أشجار الكرز – حب الملوك- في انبساط الحقول في منطقة “الكلات “

صفرو التي كانت في خاطري ،كانت الحياة فيها بسيطة وجميلة ،كالحلم بحجم راحة اليد،وجوه وأسماء،أحياء وحارات ،معالم تألفها العين في يسروسهولة ،وتحيات الصباحات والأماسي تملأ الدروب والحارات بعبارت البشر والسلام .

هنا سقاية الماء في “ناس أعدلون” ماء زلال ،لذة للشاربين ،تتمناه بشغف وحنين، وأنت مسافر بعيد ،وهناك نسوة ورجال يغسلون الصوف والقمح والبطاطين والزرابي في صهاريج “غديوة” وهنالك في ساحة الحدادين في الصباح الباكر نسوة يعرضن للبيع ما أبدعته أياديهن من غزل الصوف والحايك وعقد الجلاليب ،

 وهذا دلال يرفع صوته عاليا جيئة وذهابا يعرض في المزاد صينبة وبراد شاي من نحاس أصفر وشربيلا مطرزا بالصقلي الحر،ومهدا مصنوعا من جدع أشجار الجوز المتواجدة في بساتين “أكاي وحجر الهواري” الحي الراقي الذي كان يقطنه المعمرون، ثم أصحاب المال والنفوذ.

وهنالك قبالة المسحد الأعظم “قبة السوق” حيث أكوام الخبز البلدي ورائحة السمن والخليع عند “الكوان” رحمه الله ،ونسائم شواء الكفتة والصوصيص عند “الكيلو” وزليفات الحريرة البلدية بطعمها اللذيد والمميز عند الشريف رحمه الله .

وعبر الممر الضيق ،بمحاذات فرناتشي حمام السوق ،وتحت سنفونية المطارق والسنادين في رحبة الحدادين والبرادعية،تنفتح أمامك ساحة العموري لتتنفس المدينة من ضيق الأزقة والدروب ،حيت يحتشد الناس هناك ،لمراقبة إطلالة هلال شهررمضان الكريم ،أوبزوغ هلال شوال الحبيب وعيد الفطر ،وفيها أيضا ينحر الأمام أضحية العيد الكبير،تحت نأشيد الصغار:عيش ميت، عيش ميت ،وزغرودات محتشمات ،من بعض السطوح والشرفات .

وهنالك بعيدا بعيدا، شيخ مسن قادم من سيدي أحمد التادلي ينزل الهوينا من “دريجات ابليس” كي يلحق برفاقه المتقاعدين في “اعوينة الدندان” للعب الداما أو الروندا…أو تذكر واستعراض بطولات الجنود المغاربة الأشاوس :”الكوم” في حرب “الفرانسيس ولندوشين“.

وهنالك جنان السبيل حيث الظل الظليل والخمائل الوارفة والمياه المنسابة والأطيار المغردة ،وجلسات الأنس والرومانسية في أصائل الريبع والصيف.

 (فعشية الجمعة ،تزيان الكلسة والنزاهة مع الصنايعية ،الخضارة والكزارة والخياطة والدرازة، الطنجية بالملج والعربون مقادة، نغمة،إدامها ضحك وابساط ،لقمة في الفم لذة ،ونظرة في العين شهدة…والناس يا سيادي زاهية فرحانة.)

ظلال وخمائل ومياه منسابة وخضرة تجلل المكان ،بهجة للروح ،ومتعة للناظرين والعاشقين.

هذه المدينة: سبحان من بث فيها دفء السكينة والطمأنينة ،ينجذب الزائر إليها كما ينجذب الرضيع ،لدفء حضن أمه الحنون ، فيتخذها ملجأ ومسكنا وموئلا.

هذه المدينة :

 

هي مدينة ساحبة للمقيم والعابر

تمسك بالغريب فإذا هو ساكن مقيم

وتسحر الزائر فإذا هو عاشق متيم

وفجأة ضاعت  مدينتي وافتقدت سحرها وأريجها وغاب عني رونقها وجمالها

في أزقتها أختنق بالضيق والازدحام ،

ويطرق سمعي صنوفا وألوانا من سقط الكلام

وأرى الوجوه عابسة واجمة هجرت لغة الابتسام
واليوم بفيض مرارة وحرقة…

 أسائل كل محب وعاشق للمدينة :

ترى هل أجد مدينتي التي كانت في خاطري؟؟؟

احمد المخشوني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WeCreativez WhatsApp Support
فريق صفروبريس في الاستماع
مرحبا