لم تمر إلا أيام من الهدوء حتى ساءت حالة صفاء. كان طيف معزوز يلاحقها أينما وجدت، أما الكوابيس، فحدث ولا حرج. كانت تشعر كأنها وراء القضبان في زنزانة بينما أرض الله في الخارج شاسعة ورحبة. لقد أخذت فكرة الهروب من تلك الزنزانة الحيز الأكبر من تفكيرها. لقد أرادت أن تستنشق الهواء النقي وتسترد حريتها المسلوبة.
وذات صباح من يوم الأحد، وصل الطفل معزوز إلى منزل أستاذته بطلب منها بحجة مساعدتها في بعض الأشغال المنزلية الخفيفة. كان سعيدا جدا بذلك الطلب لأنه يحبها كثيرا، فسألها في أدب:
ـ هل أسقي لك الماء من العين يا أستاذة؟
ـ بالتأكيد، ولكن ليس قبل أن نتناول طعام فطورنا.
قدمت صفاء للطفل أفضل ما لديها من طعام وفاكهة، وبعد انتهائهما، تقدمت إليه باقتراح:
ـ يا معزوز تحب أن نلعب لعبة قبل شروعنا في العمل؟
أجاب الطفل والسعادة تنط من عينيه:
ـ بكل تأكيد يا أستاذة.. ولكن ماهي اللعبة؟
نهضت من مكانها وتوجهت نحو غرفة النوم وهي تقول:
ـ هيا بنا.. ورائي وستعرف حالا.
دخلت الغرفة وقصدت السرير ثم قالت:
ـ تمدد فوق السرير وحاول أن تقاوم بأن تدفعني وتردني عنك بكل قوتك وإذا غلبتني، ربحت خمسين درهما.
راقت اللعبة الطفل، فارتمى من تلقاء نفسه فوق السرير وهو يكاد ينفجر ضاحكا. وبكلتا يديها أخذت صفاء الوسادة، ثم انقلبت فجأة إلى فتاة أخرى غير صفاء السابقة الودودة الطيبة. لقد تغير لونها وازرقت شفتاها وارتجفت يداها، ثم عضت شفتها السفلى فبرزت عيناها ووضعت الوسادة فوق وجه الطفل ثم ضغطت بكل ما أوتيت من قوة. في البداية أسعد الطفل كثيرا، لكن وبعد لحظات تأكد بأن الأمر دخل في الجد، ولا يمكن لكل هذا أن يكون مجرد لعب. بدأ المسكين في الدفاع عن نفسه فبقي يقاوم ويدفع الوسادة من على وجهه، لكن كل محاولاته باءت بالفشل، وكانت النتيجة أن خرت قواه أمام قوة وجبروت صفاء. لقد أحس بالاختناق فبقي يحرك يديه ورجليه كوزغة وقعت تحت أرجل دابة لا تعي ما تفعله. كانت وهي تضغط بالوسادة على وجهه بدون رحمة، لا تردد إلا كلمة واحدة وهي:”مت..مت..” وبقيت على ذلك الحال إلى أن انقطعت أنفاس معزوز نهائيا، ولما أحست بأن روحه قد التحقت بالرفيق الأعلى، خرجت من الغرفة تجر رجليها المثقلتين والعرق يتصبب من جبينها، والوسادة ما تزال بين يديها. ارتمت إلى الخارج وهي تضحك بأعلى صوتها وتقول: “ـ لقد قتلته.. قتلته..” تجمهر الناس حولها وهم يوشوشون إلى بعضهم البعض مستغربين من تصرفها الغريب. جاء العم علي مهرولا ثم سأل:
ـ قتلت من يا بنيتي؟
ـ قتلته.. لقد تخلصت منه.. تخلصت من الحاجز الذي يمنعني من تحقيق رغبتي في استرجاع حريتي التي سلبت مني.. أنا الآن حرة.. حرة طليقة. لن توجد هناك أية قوة تعيدني إلى هذا السجن البارد والممل بعد الآن..
كانت صدمة الأهالي قوية برؤية الصغير ممددا على السرير جثة هامدة. لقد مللأ البكاء والنواح كل أرجاء المدشر: الله ينتاقم من الظالم.. تعالوا أيها الناس.. تعالوا لتنظروا ماذا فعلت هذه المجنونة..
وفي الوقت الذي كان فيه المنزل يئن تحت وطأة الباكيات والمولولات ولاطمات الخدود. تسللت صفاء وصعدت الجبل ثم توغلت داخل غابة وعرة وموحشة فتاهت بين الأشجار الكثيفة كعصفورة ضائعة.
احسنت قصة رائعة واصل تميزك