لقد ترسخ لدى غالبية الأذهان منذ أمد بعيد أن منحى التطور دائما يسير في اتجاه تصاعدي، وأن البشرية تسير في خط تطور دائم، يرتفع دائما نحو الأعلى، وأن أفضل ما وصلت إليه البشرية هو ما حققه هذا الجيل، لأنه أحدث الأجيال.. غير أن أشياء كثيرة نراها مع كل يوم جديد ، في عدة ميادين ترد هذا الزعم وتفند هذا الطرح بما لا يدع أدنى مجال للشك.
بالأمس وأنا أتنقل بين قنوات بلادنا، بحثا عن خبر يسرني سماعه، أو جديد يشدني إليه، عوض فقرات الإشهار والإعلانات الطويلة التي تطالعنا دوما، وتفسد ذوقنا، وتبلِّد عقولنا! إذ استوقفني مقدم أحد البرامج الفارغة، وهو يتحدث بحماس كبير، وتقدير بليغ، عن إحدى الأغاني الجديدة.. فاستمهلت أناملي قليلا؛ قبل تغيير القناة، وقد شدني حديث الرجل إلى روعة هذا الإبداع، والعدد الهائل لمشاهديه ومستحسنيه خلال فترة زمنية قياسية.. ممنيا النفس بمشاهدة عمل متقن، وإبداع كبير، يختلف كثيرا عن نمط الإنتاج الرديء والهابط الذي يحيط بنا، ويملأ الفضاء من حولنا صراخا وزعيقا وأصواتا منكرة!
فلم يطل انتظاري طويلا، وسرعان ما انطلقت الأغنية الشهيرة التي لاقت المدح الكبير من مقدمها. فعلمت حينها الفرق الشاسع بين ما قاله هذا وبين ما قدمه! فشتان بين الإبداع، وبين الفوضى التي يتضمنها العرض الهزيل والمتدني الذي قدِّم إلينا! فمع انطلاق الموسيقى ظهرت شرذمة كبيرة من الشباب، تختلف أزياؤهم، وحركاتهم، وسحنات وجوههم، وقصات شعرهم، ولا يوحِّد بينهم إلا الصراخ المتواصل الذي راحوا يرددونه، وإشارتهم بين الحين والآخر نحو أنوفهم! وما عدا هذه الحركة الغريبة منهم، وكلمة مسح الأنف،وأكلهم الشنيع لحبات الموز… فلم أفهم شيئا من الكلام الرديء المبهم الذي راحوا يتناوبون على أدائه! وقديما كنا نسمع الأغنية فنقضي وقتا طويلا لفهم وإدراك المعاني البليغة التي تشتمل عليها كلماتها. أما اليوم فإننا نقضي وقتا أطول من السابق حتى نتعرف فقط على منطوق الكلمات المعقدة والمبهمة للأغنية!
والغريب في الأمر، ومما يثير الحنق، هو التناقض الصارخ بين تصريحات ـ المغني ـ القيّمة وبين أدائه الباهت والرديء! فقد تحدث دون حياء أو خجل عن معاني وقيِّم عظيمة وردت بأغنيته ـ التي لم نفهم منها حرفا واحدا غير حك الأنف!ـ بل لم يكتف بذلك، وراح يتحدث عن شعبيته الكبيرة، وعن النسب الخيالية للمشاهدة التي لاقتها أغنيته.. واسترسل في كلامه يتحدث بحماس كبير عن مشاريع فرقته المستقبلية، وخصوصا عن أغنيته القادمة “ويلي ويلي ويلي” التي يتوقع لها النجاح الباهر! وهو ما ذكرني بقولة أحدهم: أن المطرب إذا لم يكن مطربا، بل شيئا نابتا على السماد الكيماوي في مستنقعات الحرب، أو جروا يعوي، أو فرخة تكأكئ، يكثر من إنتاج الأغاني، وإصدار الأسطوانات، والكلام الكثير عن مشاريعه المستقبلية…
في الحقيقة فقد شعرت بعد كل هذا الهراء بالغثيان، وتيقنت أن عددا من القنوات قد نجح إلى حد بعيد في إفساد الأذواق، وأصبح معقلا هاما لتكريس عهد جديد من الرداءة والتدني والانحطاط ، وتشويه القيم، وخلط المفاهيم، ونشر الميوعة، والسير بالناس نحو الدرك الأسفل من الحياة الفكرية والفنية والاجتماعية والانسانية.. وبلوغ الحضيض من كل شيء.