في وسط عائلي مزرٍٍ ومشحون بالقلق والتوتر،صرخ صرخته الأولى، وارتمى إلى الدنيا عن طريق الصدفة! بدأوا ينادونه باسمه دون إراقة دم خروف ودون حفل عقيقة.لاح إلى الوجود كرصاصة طائشة طلعت من فم مسدس خطأ، والغريب في الأمر أن أصحاب هذا المسدس لا يمتّون إلى المسؤولية بصلة. أخذ المخلوق مكانه في ذيل دزينة إخوة كأرانب برية، أَعتبر هو آخر عنقودها. ولكن، أي عنقود؟! أجمل حباته نخرها السوس وأخذت طريقها نحو التلف، أما الباقي ففسد بالكامل ولم يعد يصلح لشيء.وبخصوص الوالدين، فهما مثال صارخ للفقر والجهل والعبث. لا يتقنان في الدنيا شيئا سوى “الشخط والنخط” والشجار ليل نهار، بحياتهم ما عرف البيت هدوءا أو سكينة: لا تسمع سوى الأصوات العالية والبكاء والنواح؛ وإذا حدثت معجزة وهدأ البيت يوما ـ بعد أن تغط جميع الأرانب في نوم عميق طبعا!ـ يكون آخر الليل موعدا تلقائيا لمشروع مخلوق جديد..!!
لم يحتفل حميد بعيد ميلاده قط، كما أنه لم يذق طعم الحنان والحب والاهتمام. لا أحد يسأله من أي مكان أتى أوإلى أي مكان سيذهب. لا أحد يدري إن كان قد أكل أو لم يأكل، وإن كان قد نام أم لم ينم، وكذلك إن كان قد ذهب إلى المدرسة أم لم يذهب…! لكنه كان نشيطا، مرحا، وذكيا. كان يعرف كيف ينتزع لقمته حتى ولو كانت وسط النار، أو داخل حلق إبليس! كان يدرس جيدا بالرغم من غيابه المتكرر وعدم متابعة دروسه بشكل منتظم.
لكن شيطنته وظروفه القاسية منعاه من استكمال تعليمه إذ جرفه تيار الانحراف ومرافقة من هم أكثر منهسوءا وتشردا. لم تعد هناك عادة سيئة إلا وتعاطاها: شرب الخمر، لعب القمار، ودخن الحشيش…
وبينما هو يتسكع كعادته بين الشوارع والأزقة والأماكن المزدحمة، رمقت عيناه فتاة تتكلم في هاتفها المحمول، وهي تحمل حقيبتها الجلدية على كتفها، وقد كانت بانتظار الحافلة. ولما أنهت مكالمتها، أعادت المحمول، الذي أثار حفيظة حميد وأسال لعابه واشتهاه في جيبه، إلى الحقيبة ثم أحكمت إغلاقها. بدأ يقترب منها شيئا فشيئا حتى إذا التصق بها، مدّ يده خفية، وبرؤوس أنامله فتح الزر، ثم دس يده في جوف الحقيبة وسحب المحمول دون أن يحس به أحد. أخذه إلى سوق الخردة، وقبض بدله مبلغا أقل بكثير من ثمنه الحقيقي، لكن بالنسبة إليه، فخير وبركة!
لقد تذوق حميد طعم صنعة أنامله، فاستحلاها وانطلق في معاودة الكرّة مرات ومرات إلى أن صار نشالا محترفا. شرع في تطوير أساليبه وتقنياته وتمرين أصابعه على الخفة والرشاقة، وبذلك تبوأ مكانة مرموقة ومتميزة في عالم النشل وسلب أموال وأمتعة الناس! أصبحت لديه قدرات خارقة على نشل النقود حتى ولو وجدت داخل فم سمكة في عمق البحر.
وذات يوم، قصد إحدى أسواق البهائم حيث النقود تعد بآلاف الدراهم، وأخذ يتجول بأريحية وثقة زائدة في النفس، كما لو كان ربّ مزرعة جاء ليتفقد كل ما لديه فيها من مال ومتاع! لكن، وكما يقولون:”ليس في كل مرة تسلم الجرة” فهذه المرّة سينقلب السّحر على السّاحر، وسيكون الأمر مختلفا تماما، إذ سيجد حميد نفسه ملقا على الأرض مغما عليه، مهشم العظام والعضلات من كثرة “العصي” و”الهروات” التي تساقطت على جسده من طرف التجار والكسابين كالمطر على إثر انكشاف أمره وهو يحاول سرقة نقود أحد الباعة. فما لبث هذا الأخير أن صاح في الناس:”شدوا الشفار..! شدوا الشفار..!” حتى لم تجد آخر “هراوة” مكانا لها في جسد حميد. ظل ممددا في دمه كحليب متخثر مدة ليست بالقصيرة ظن الناس خلالها أن روحه قد صعدت إلى بارئها. وبما أنه كالقطط بسبع أرواح! استفاق من غيبوبته، ولملم عظامه المتناثرة بصعوبة جمة وراح إلى حال سبيله وهو يجر جسده المهلهل غارقا في خيبة أمل من رأسه إلى أخمص قدميه.
بقي في منزله أياما ندم خلالها على كل ما فعل، ولما تعافى، أخذ في مراجعة حساباته وقرّر تغيير مسار حياته. بدأ الجانب الإيجابي يتململ بداخله، فحاول استغلال ذكائه فيما هو أنفع وأكرم. وجد نفسه مشدودا للوقوف بباب الثانوية متأملا كل التلاميذ وهم يدخلون ويخرجون والبشرى بادية على وجوههم. استرجع كل ذكرياته المتعلقة بالمدرسة. فأولئك التلاميذ لا يختلفون عنه في شيء، ولا يمتلكون أكثر مما يمتلك. هو أيضا ذكي ويدرس جيدا لولا الظروف الاجتماعية القاسية وغياب من يربي ويوجه… ومنذ تلك اللحظة، قرر أن يقطع صلته بالماضي نهائيا، ولم يعد يصاحب أحدا من رفقاء السوء القدامى؛ فانكب على الدرس والتحصيل بنهم لا يشبع. جعل من الكتاب جليسه، ومن القلم رفيقه. قدم لامتحان الباكالوريا ونال الشهادة بتفوق، ثم دخل الجامعة واجتاز كل الامتحانات بنجاح إلى أن تخرج. لقد استطاع أن يكسب عطف الكثير من الناس الذين أُعجبوا بشخصيته ولم يبخلوا عليه بأية مساعدة سواء أكانت معنوية أو مادية.
وأجمل ما في الأمر هو الحظ الذي وقف إلى جانبه وجعله يفوز بعمل في قطاع التعليم كما يتنمى دائما. ولم يقف الحظ عند ذلك الحد، حيث أنه استطاع الزواج من الفتاة التي أحب، وكانت طفلتاه الجميلتان ثمرتين طيبتين لذلك الحب. وكلما طلبت منه إحداهن أن يحكي لها حكاية، كان يبدأ كلامه بـ: “كان يا ما كان.. في غابر العصور والأزمان.. بطل شجاع مقدام، استطاع الهرب من فم
ثعبان بعد أن كان سيبتلعه ويجعل يومه ذلك آخر الأحزان…”.
لقد جمعت هذه الأقصوصة للفنان نجيب اتريد بين بلاغتي الامتاع والإقناع الشيء الذي يجعلها تمارس غوايتها المطلقة على المتلقي المفترض لها بحيث تشده إليها بأكثر من سبب وتأخذ بتلابيبه إلى أن ينتهي من قراءتها. فقد وظف الزميل نجيب بشكل موفق اللغة الشعرية القائمة على الخرق والانزياح إلى جانب تقنيات السرد وخاصة انتقاؤه لرؤية سردية تمثلت في الرؤية من الخلف الشيء مكنه من سارد عالم استطاع بفضله استبطان بطل هذه الأقصوصة وعكس ما يعتمل بداخله من صراعات وما يعانيه من خيبات وانكسارات وما يطمح إليه من انتصارات. فأقصوصة المبدع نجيب اتريد إذا تجاوزنا ما وراء السطور فإنها حافلة بالتوجيهات القيمية والتربوية الهادفة إلى غرس قيم الخير وحب الحياة والتفاؤل في الإنسان وتغليبها على نوازع الشر والإحباط والتشاؤم…إلخ.فشكرا لك أيها الفنان المتألق من ابن الحارة فالدار القديمة.
عمل رائع أخي نجيب أحيي فيك الخاصية الاجتماعية فأنت لا تنفك تعالج قضايا همت و تهم الشباب المغربي . إلا أن الأهم هو الدروس التي تقدمه في أعمالك بحيث نجدها عبارة عن دروس بطريقتك الأدبية ، تحياتي
tahiya 3atira ostad najib mawdo3 chai9 wal jamil fih howa dahaa wa dakaa dahiya mra okhra chokran jazilan akhi najib
سي مجيد لقد إندهشت كثيرا وأنا أقرأ لك هذه الأقصوصة-إلى حد أني لمت نفسي على عدم القراءة لك من قبل.لماذا ؟لأن القصة القصيرة التي بين يدينا، هي لإديب قد إكتملت فيه شروط الإبداع فعلا. خصوصا وأن الواقعية التي اعتمدتها في سرد أحداث الاقصوصة هي مرحلة لايصلها الكتاب الكبار الى في مراحل متأخرة من مسيراتهم الإبداعية.وأتمنا لشبابنا وشاباتنا أن يكتشفوا شخصية حميد في أعماقهم. ولهم هم وحدهم إيجاد طريقة التفاعل مع حميدهم. شكرا سي مجيد على إمتاعنا.أتمنا أن أقرأ لك مرة أخرى.وطبعا للحديث بقية…