العالم

التاريخ الجزائري بين الإنكار والتعويض النفسي : أسطورة وطن لم يولد إلا مع فرنسا

يرى المؤرخ الفرنسي برنار لوغان أن ما يُسمّى بـ”التاريخ الرسمي الجزائري” ليس سردًا علميًا للماضي، بل أقرب إلى علاج جماعي نفسي لشعب ما زال يعيش على وقع صدمة الهوية. “التاريخ هو الجحيم والجنة معًا بالنسبة للجزائريين”، يقول المؤرخ الجزائري محمد حربي، في توصيف لواقع لا ينفك يطارد الذاكرة الجماعية لدولة وُلدت حديثًا على أنقاض قرون من التمزق السياسي والهيكلي.

الجزائر قبل فرنسا: جغرافيا بلا كيان

يؤكد لوغان أن ما يمكن اعتباره نواة لكيان “ما قبل الجزائر” لم يظهر إلا في القرن الثالث قبل الميلاد مع مملكة “الماسايزيلي” الأمازيغية، وعاصمتها “سيغا” قرب عين تموشنت، والتي امتدت من الملوية غربًا إلى واد الكبير شرقًا. لكن بعد ذلك، لم يشهد التاريخ وجود كيان سياسي يمكن وصفه بالوطني أو السيادي في المنطقة، إلى أن جاءت فرنسا التي أطلقت رسميًا اسم “الجزائر” عام 1839، بحسب لوغان.

بعكس المغرب الذي تميز بتراكم دول متعاقبة بمراكز حضارية واضحة كفاس ومراكش، ظلت الجزائر منقسمة جغرافيًا وإثنيًا، تتحكم فيها تأثيرات خارجية من تونس شرقًا والمغرب غربًا، دون أن تتبلور بها سلطة مركزية وطنية. حتى خلال الحكم العثماني، لم تعرف الجزائر ولادة سلالة محلية حاكمة كما حدث في ليبيا مع الكرمانليين أو في تونس مع الحسينيين.

دوغول: “لم توجد الجزائر إلا مع فرنسا”

ينقل لوغان تصريحًا صادمًا للجنرال شارل دوغول يعود إلى 1959، قال فيه:
منذ أن وُجد العالم، لم تكن هناك وحدة ولا سيادة جزائرية. مرّ على البلاد قرطاجيون، رومان، وندال، بيزنطيون، عرب، أتراك، فرنسيون، دون أن يظهر فيها قطّ كيان اسمه الدولة الجزائرية“.

وبالتالي، كانت فرنسا هي من جمّعت هذه الأقاليم المفككة، عبر بناء طرق وبنية تحتية، ورسمت حدود الدولة الحديثة، حتى ولو كان ذلك على حساب أراضٍ اقتُطعت من المغرب كما في حالات تندوف وبشار وتابلبالة.

الأسطورة المؤسسة: كتابة التاريخ كأداة تعويض

بعد الاستقلال، صنع النظام الجزائري سردية رسمية تُعيد اختراع الماضي، مُقصية الحقائق التاريخية التي لا تخدم “شرعية الثورة”. ويعتبر لوغان أن هذه الرواية الرسمية لم تُبْنَ على أسس علمية، بل على خليط من الأساطير والمقولات الأيديولوجية، تحولت إلى “عقيدة” غير قابلة للنقد أو المراجعة.

بل أكثر من ذلك، تحولت كتابة التاريخ في الجزائر إلى أداة تحرّر وهمي من عقدة الماضي، يُراد بها إسقاط مسؤولية الفشل البنيوي على “الاستعمار” وتبرير غياب كيان سياسي راسخ قبل 1962.

“مصالحة الذاكرة”: خدعة فرنسية أم استحالة جزائرية؟

في ظل هذا المشهد، تبدو دعوات إيمانويل ماكرون إلى “مصالحة الذاكرة” ضربًا من العبث السياسي، حسب لوغان. فبينما تفتح باريس أرشيفها، تواصل الجزائر إغلاق ملفاتها، وتعيّن شخصيات مثل عبد المجيد شيخي، ممن لا يمارسون التاريخ، بل “ينتقمون له”.

ما لم تُراجع الجزائر علاقتها مع ماضيها مراجعة علمية جريئة، بعيدًا عن الأسطرة والضحية الدائمة، ستظل أسيرة تاريخ خيالي، لا يساهم إلا في تكريس الانقسام الذهني والسياسي، وقطع الطريق أمام أي أفق حقيقي للتصالح مع الذات أو مع الآخر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى