شغل البحث حول تاريخ البادية المغربية حيزاً هاماً من اهتمامات عدد من الباحثين والمؤرخين المغاربة ولا يزال، وجاء ما حصل من أعمال علمية وتراكمات في هذا الاطار متعدداً في زوايا نظرته ومقاربته للموضوع، وهو ما جعل الخزانة المغربية عموماً بنصوص وتجارب لا يستهان بها حول تاريخ البادية. ومقابل دراسات جمعت بين وصف وتصنيف لتاريخ عدد من البوادي المغربية، توجهت أخرى على محدوديتها لقضايا ومحطات محوية في تاريخها خاصة ما تعلق بفترة تاريخ المغرب المعاصر، في أفق فهم أهم وأوسع لأحداثها ووقائعها ضمن تطور تاريخ البلاد العام. ولا شك أن المهتم بتاريخ البادية المغربية يجد نفسه أمام غموض لا يزال يلف جوانب كثيرة من مكونات قبائلها واسهاماتها وحضورها في تاريخ البلاد، وقد سبق للمؤرخ علال الخديمي أن أشار في احدى إسهاماته أن تاريخ القبائل المغربية في معظمها، لا يزال موضوع تكهنات وأحكام مسبقة ونظريات متسرعة. علما أن تاريخ المغرب في حدود معبرة هو تاريخ بادية بالأساس، بحيث لعب هذا المجال دوراً هاماً بكل مقوماتها فيه.
ضمن هذا السياق وحول ذاكرة بادية تازة وقبائلها وعلامات مساهمتها في تاريخ البلاد الوطني ومواجهة الاحتلال الاستعماري على عهد الحماية، يدخل كتاب “تازة على عهد الحماية قبيلة البرانس في مواجهة الاستعمار الفرنسي” لمؤلفه ذ.عبد السلام انويكًة، والذي صدر عن منشورات ومضة بطنجة في حجم من القطع المتوسط، وبصورة مدمجة في واجهته عن الأرشيف الفرنسي، تخص واحدة من أهم معالم شمال تازة الكولونيالية العسكرية الفرنسية، حيث مجال قبيلة البرانس ومقدمة جبال الريف تحديداً مركز تايناست غير بعيد عن حدود منطقة الاحتلال الاسباني على عهد الحماية أو ما عرف خلال هذه الفترة ب” المنطقة الخليفية. والكتاب يدخل ويصنف ضمن مجال البحث التاريخي حول البادية المغربية ومساهمتها عموما في مقاومة الاحتلال الأجنبي، وخاصة بوادي المناطق الجبلية الوعرة والنائية، ومن هنا ما طبع هذا المؤلف من تميز.
الكتاب هو بتقديم عميق للدكتور محمد الزرهوني رحمه الله، تقديماً ضمنه جملة إشارات محكمة بعيون الباحث الأكاديمي، استحضرت سياق المؤلف حول تاريخ القبيلة العسكري المعاصر. وما تأسس عليه من ببيبليوغرافيا غنية بالعربية والفرنسية ومن وثائق بقيمة تاريخية هامة عن الأرشيف الاستعماري بالمغرب على عهد الحماية. وقد جاء المؤلف بثلاث محاور متكاملة في اطار زمن منهجي تاريخي، بسطت لمحطات من تاريخ منطقة تازة خاصة قبيلة البرانس، بإبرازها لعدة تطورات ووقائع طبعت المنطقة منذ عقد الحماية حتى الكفاح الوطني من أجل استقلال المغرب.
وقد انصب الكتاب في اطار عمل تاريخي وبادرة غير مسبوقة، على دراسة قبيلة من حيث خصائص موطنها وسمات مجتمعها ومكونات أنشطتها، كذا تفاعلاتها مع محيطها منذ القدم. مع تركيزه على فترة حرجة ودقيقة من تاريخها تلك المتعلقة بانخراطها في مواجهة التوغل الاستعماري الفرنسي بالمنطقة بين سنتي 1912- 1956م، وما واكب ذلك من مد وجزر في علاقة مع مكون ممر تازة القبلي المحلي ومن شد وجذب بينها وبين فلول القوات العسكرية الاستعمارية منذ احتلال تازة، فضلاً عن تضحيات جسيمة فردية وجماعية قدمتها قبيلة البرانس في سبيل استقلال البلاد.
وبقدر ما شكل كتاب “تازة على عهد الحماية قبيلة البرانس في مواجهة الاستعمار الفرنسي” قيمة مضافة هامة غير مسبوقة لفائدة تاريخ المنطقة وباديتها تحديداً، بقدر ما يعد اضافة للخزانة التاريخية وإسهاماً متميزاً في حقل التاريخ المحلي أورد حوله الدكتور محمد الزرهوني رحمه الله في تقديمه قائلاً: “بقدر ما لهذا التخصص من أهمية بالغة في سبيل إماطة اللثام عن قضايا وإشكاليات وتجارب بشرية مُموقعة في المجال ومُمتدة في الزمان، تخص مدنا وقرى وتجمعات بشرية ظلت مجهولة أو مغمورة لضعف الاهتمام بها أو لتهميشها… بقدر ما ينطوي على تحديات جمة على مستوى التنقيب والتأليف لِما يعتري ذلك من صعاب، تتعلق بندرة الوثائق أو قلة فرص الحصول عليها لأسباب متعددة. منها على الخصوص ضعف حركة التدوين وسيادة الثقافة الشفاهية، والميل إلى التكتم عليها أو إخفائها. لذلك فإن الباحث الراغب في اقتحام هذا الفرع من التاريخ، يجد نفسه أحيانا أمام مغامرة تتطلب منه الصبر والتؤدة والمكابدة وسعة الصدر. لعله يجمع شذرات متناثرة من المعلومات والموارد تسعفه لتحقيق مبتغاه، دون أن تشفي فضوله الفكري بالمستوى المطلوب وتروي غليله العلمي بالكيفية المتوخاة. والواقع، أن مختلف هذه النقائص لم تثن عزائم ثلة من الفاعلين والباحثين عن الاضطلاع بهذه المهمة العلمية المجدية، فعمدوا إلى اقتحام عرين التاريخ المحلي، لدوافع ذاتية أو موضوعية كل حسب موقعه ووضعه ومبتغاه، واستطاعوا بفضل انخراطهم البيِّن أن يدلوا بدولهم في هذا الشأن، متجشمين عناء الصعاب ومقارعين ثقل المشاق”.
ويعد مؤلف “تازة على عهد الحماية قبيلة البرانس في مواجهة الاستعمار الفرنسي” في محوره المخصص للشق الفزيائي، هو بمثابة جولة في جغرافيا قبيلة البرانس التي تتميز بواقع ومجال طبيعي معقد ومتنوع، فرضته وعورة التضاريس الجبلية وقساوة المناخ واتساع الرقعة وصعوبة المواصلات. فضلاً عن واقع عزلة نسبية في علاقة بمحيطه وبخاصة من جهة الشمال حيث مقدمة جبال الريف، المجال الذي جابه صاحب المؤلف لإلتقاط كلمات أو جمل أو شظايا رواية بهذا المكان أو ذاك ومن هذا المقاوم أو ذاك ممن لا يزالون على قيد الحياة.
ولا شك أن صاحب المؤلف بذل جهد كبيراً وهو يخوض لجة البحث، حول هذه الفترة التاريخية الهامة من تاريخ مغرب الحماية وبهذه الرقعة الجبلية من الوطن. بالنظر لضعف المادة المصدرية التي لا تتجاوز في الغالب الأعم ما خلفته الادارة الاستعمارية من وثائق ومستندات، وبعض ما ورد في حواشي الدراسات الأكاديمية. ولعله ما دفع صاحب المؤلف للاعتماد على الرواية الشفهية في توثيقه لتاريخ مقاومة قبيلة البرانس للاستعمار الفرنسي، من أجل سد الفراغات التي تقفز عليها المصادر والمراجع المتوفرة، وهو دليل على أهمية طرح سؤال مدى صدقية ومصداقية الخلاصات والاستنتاجات التي يتم الاهتداء إليها بالاعتماد فقط على المادة المصدرية الأجنبية.
لقد جاء مؤلف “تازة على عهد الحماية قبيلة البرانس في مواجهة الاستعمار الفرنسي”، غنياً بمادة توثيقية مستقاة من رواة عايشوا الأحداث التي تناولها. قصد انتقاء الأهم وفرز الغث من السمين وغربلة المنحاز من الرواية والمعلومات عن الموضوعي، ولانتقاء وحصر الروايات التي يمكن أن تقدم رؤية متوازنة لِما جرى من أحداث وتطورات خلال هذه الفترة الدقيقة من تاريخ الوطن.
ففي مائة وسبعين صفحة من القطع المتوسط، بسط الكتاب لجانب من تاريخ قبيلة البرانس المعاصر، عبر ثلاثة فصول تحدث الأول منها عن القبيلة في امتداداها المجالي وأصول تسميتها وتركيبتها ونمط عيشها وتاريخها. منذ فترة الأدارسة حتى ظهور طلائع القوات الاستعمارية الفرنسية الغازية الأولى، على مشارف حدود القبيلة. أما الفصل الثاني فقد تناول مقاومة قبيلة البرانس للاحتلال الفرنسي تدريجياً، مع التعريف برموزها الذين حملوا مشعل المقاومة ما بين 1914 – 1956. ويأتي الفصل الثالث من الكتاب ليبرز رد فعل قبيلة البرانس على نفي السلطان محمد بن يوسف من طرف سلطات الحماية، من خلال اعلانها النفير في صفوف أبنائها لاستنفارهم وتعبئتهم، في معترك المقاومة المسلحة التي لم تضع أوزارها إلا بإعلان استقلال المغرب.
ويبقى كتاب “تازة على عهد الحماية قبيلة البرانس في مواجهة الاستعمار الفرنسي” بقيمة مضافة هامة للمكتبة التاريخية الخاصة بتاريخ البادية المغربية المعاصر، بالنظر لِما بذل فيه من جهد وما تميز به من عطاء ومبادرة وشجاعة أدبية. من أجل رصد الثقافة التاريخية الوطنية وتوثيقها ونشرها وابرازها للأجيال الجديدة من جهة، ومن أجل أيضاً ابراز ما اسهم به الأجداد من تضحيات وما كانوا عليه من وطنية وحب للوطن والدفاع عنه من جهة ثانية. ولعل مثل هذه الكتب والمؤلفات حول تاريخنا الوطني الذي ساهمت فيه البادية والمدينة المغربية على السواء وبأساليب مختلفة، هي مكونات أساسية لرأسمالنا الرمزي، الذي يجسد ثراء بلادنا وثروتها اللامادية وتنوعها وعمقها كما كانت عليه دوماً عبر تاريخها الوطني.