تحكي الروايات المتواترة والآثار المتواجدة بنواحي مدينة البهاليل ، أن ساكنة البهاليل كانوا يعيشون في مداشر متناثرة ( عين السلامة ، عين بومرعاز، بني هلال ، القلعة ، بوجماعة، شقوندة وزواوة…)، حيث عرفت نوعا من التنظيم والتنسيق الأمني فيما بينها مركزه دشر ” بوجماعة”. وقد تألفت من مجموعات عشائرية عربية أو مستعربة.
ولعل الروايات التي ترجع أصل سكان البهاليل إلى الإمبراطورية الرومانية و الديانة المسيحية ، تبقى مجرد تأويلات قام بها المبشرون الأوربيون و القوى الاستعمارية لتسهيل السيطرة على هذه المنطقة وكسر شوكة المقاومة بها ، وهذا لا ينفي وجود آثار للتبادل التجاري بين سكان هذه البلدة والمغرب عامة وبين الحضارة الرومانية.
و عقب الحملة المرينية على هذه المداشر ، اجتمع شتات ما تبقى منها واستوطنوا بالمنطقة الحالية التي لم تكن سوى “مقيلا” بما يحتويه من الأجراف والمياه المتدفقة من عين كبير مكونين مدينة البهاليل بثلاث حومات أساسية هي حومة أغزديس وحومة القصبة وحومة الخندق ، وأحاطوا مدينتهم بسور واق تعبره عدد من الأبواب ( المقنطار ، الزقاق، الدرب الكبير ، الدريبة ، درب بن الشيخ ، ودرب جنان منصور)
واللافت أن اقتسام يماه السقي بمزارع “تاكنايت” و”المسارة” اعتمد نظام الحومات المتواجدة بالمدينة ، فكان الماء مقسما إلى ثلاثة أيام للحومة الواحدة ، بحسب أصل المالك الأول للقطعة الأرضية، وهو أمر تتميزت به البهاليل عن باقي المناطق التي تعتمد نظام الزمن في تقسيم حصص السقي، ولعل ذلك راجع إلى وفرة المياه آنذاك.
الخصائص الجغرافية:
شكلت البهاليل عبر العصور منطقة أطماع متكررة من طرف القبائل المجاورة بحكم موقعها الاستراتيجي في سفوح الأطلس المتوسط المتصلة بهضبة سايس حيث الجبال والمرتفعات والأراضي المنبسطة والتربة الخصبة والعيون الكثيرة ، بالإضافة إلى قربها من نهر أكاي ،كما تقع في ممر عبور القوافل التجارية العابرة بين فاس وتافيلالت.
من جهة أخرى ، شكلت تضاريسها سدا منيعا في وجه الغزاة ، ومصدرا للأمن الغذائي والمائي ، كما سهلت صخورها المشكلة من الكلس و الترافرتين إمكانية حفر الكهوف و استغلالها. و من جهة أخرى تعتبر تربتها من أجود أنواع التربة التي تنتج أصنافا متنوعة من الحبوب والخضار والأشجار المثمرة و غير المثمرة التي تشكل مصدرا للحطب والاستعمالات المختلفة.
وهكذا فقد شكل سكان البهاليل منطقة نفوذ شاسعة تمتد إلى قبائل شراردة في الشمال الشرقي وفاس شمالا و قبائل بني مطير غربا و قبائل آيت يوسي جنوبا.
الخصائص الثقافية :
تميز ساكنة البهاليل على مر العصور بالأصالة والشجاعة والكرم والشخصية المتميزة عن باقي المناطق في اللهجة وعادات الزواج والطبخ واللباس والحرث والغناء…ولقد جمعوا بين عنصر الحفاظ على الشخصية المميزة وبين الانفتاح على باقي الثقافات ، بحيث أعلوا قدر أهل العلم واستقدموا الأئمة من مناطق شمال المغرب أساسا ، ورحبوا بعائلاتهم حتى صاروا مكوننا أساسيا بينهم ، كما عظموا قدر آل البيت ورحبوا بهم في أرضهم واحتضنوهم و أنزلوهم منزلة رفيعة.
فكان أن صارت البهاليل منارة لحفظة كتاب الله تعالى ، ومركز للزوايا الصوفية بمختلف أنواعها ( الزاوية التهامية، الزاوية العيساوية ، الزاوية الناصرية ، الزاوية الحراقية الدرقاوية ، الزاوية الكتانية…) و صارت لهذه الزوايا دو أساسي في التأطير الديني والروحي و تكريس قيم التكافل والتضامن الاجتماعي بين الساكنة ، وأسهمت في جسور التواصل مع مراكز هذه الزوايا عبر ربوع المغرب( فاس ، مكناس ، وزان ، تطوان ، كندر، أهل سيدي لحسن اليوسي…)
ملامح التميز الثقافي:
تستوقف الزائر لمدينة البهاليل ملامح الإنسان البهلولي من خلال عدة علامات مميزة منها :
- اللهجة الخاصة التي تقترب من اللسان العربي الفصيح ،على غرار قبائل بني يازغة و جبالة و زرهون ، وإن كانت تستدمج بعض المصطلحات الأمازيغية ( أغزديس).
- عادات اللباس المتمثلة في الحايك ( الطرف )عند المرأة و شكل العمامة والجلباب عند الرجال .
- الحرف التقليدية الخاصة بإنتاج الألبسة والأواني والمعادات الفلاحية من الصوف والخشب والدوم …
- حفر الكهوف لأجل السكن وإيواء الحيوانات وتخزين المحاصيل وغيرها بطرق تنم عن مهارة الإنسان وتمرسه في أساليب العيش والبقاء.
- الأهازيج الأغاني الشعبية المتصلة بممارسة المهن والحرف وعادات الزواج والأفراح ( المزوكي، حنة العريس ، أغاني الحصاد والدراس…)
- الأمثال والحكم التي تلخص تجربة الإنسان البهلولي في الحياة وتشكل رابطا لاقتداء الأبناء بالآباء والأجداد.
- عادات الطبخ والأكلات التي يتميز بها الإنسان البهلولي ( بركوكس، أدفي…)
- عادات تخزين العسل والزبدة والخليع والحبوب والقطاني وتجفيف الخضر والفواكه…
- طقوس الزواج وحفلات الأعراس التي كانت تقام على امتداد سبعة أيام متتالية بين بيت العريس وبيت العروس.
التعايش القافي لدى ساكنة البهاليل:
لم تحل مقومات التميز في شخصية الانسان البهلولي دون انفتاحه على باقي القبائل والأعراق ، فقد عرف سكان البهاليل أشكالا من مظاهر التعايش الثقافي تمثل في :
- استقدام الأئمة وحفظة كتاب الله تعالى من مناطق الشمال المغربي وادماجهم في النسج الثقافي للمجتمع البهلولي (منطقة جبالة خصوصا) .
- احتضان الشرفاء من آل بيت الرسول صلى الله عليه و سلم والاعتناء بهم( شرفاء وازان).
- التعامل الحرفي والتجاري مع ساكنة مدينة صفرو بما تحتويه من المكون اليهودي في مجالات الحرف والنسيج والألبسة و الخياطة ، الأدوات الفلاحية والشراكة في مجالات الغرس وتربية المواشي…
- التبادل التجاري مع حاضرة فاس حيث شكلت هذه الأخيرة سوقا لبيع المنتوجات الفلاحية من الأصواف والحبوب وغيرها ، كما شكلت مقصدا لسكانة البهاليل من أجل طلب العلم والنهل من علوم الدين.
- التواصل الروحي من خلال الزوايا مع العديد من المناطق القريبة والبعيدة ( فاس ، مكناس، وزان ، تطوان ، أهل سيدي لحسن اليوسي ، جبل كندر…)
- التبادل التجاري والتعاون الأمني مع بعض القبائل الأمازيغية المجاورة (آيت عياش …).
فترة المقاومة:
مع دخول المستعمر إلى فاس عاصمة المغرب آنذاك وإلزامه السلطات المغربية بتوقيع عقد الحماية ، عبرت القبائل المغربية قاطبة و تلك المحيطة بحاضرة فاس خاصة ومنها قبيلة البهاليل عن امتعاضها من هذا الإجراء الذي يتعبر مسا خطيرا بمقدسات المغاربة الدينية والوطنية ، فعملت هذه القبائل على محاصرة فاس للحد من توسع نفوذ المستعمر في اتجاه باقي المناطق.
ولقد كانت بداية المقاومة الحقيقة والشرسة ، كما تروي كتب التاريخ ، تلك التي واجهت بها قبيلة البهاليل المستعمر في طريقه نحو بسط السيطرة على الأطلس المتوسط حيث لاقى المستعمر مقاومة عنيفة من لدن الساكنة ، لم تتوقف فصولها حتى مع تثبيت أركان الاستعمار الذي عمد إلى إذلال المواطنين وتسليط أعوانه على رقابهم ، فظلوا متمسكين بحريتهم ممتنعين عن تسليم أرضهم رغم ما ذاقوا من ويلات السجن والتعذيب و التنكيل. كما تحكي بذلك بطولاتهم وأشعارهم و أيامهم المجيدة ، ومنها واقعة البطل “بوجبهة” وغيرها.
بعد الاستقلال:
مع بزوغ عهد الاستقلال ، انطلق الفلاح البهلولي إلى العمل بكل جد واجتهاد، فكان أن تم غرس آلاف الهكتارات من أراضي البور بأشجار الزيتون ، كما تفطن الناس بهذه المدينة إلى أهمية التعليم في حياتهم وأبنائهم فلم تثنهم بعد المسافات بين البهاليل وصفرو وبينها وبين فاس عن إلحاق أبنائهم بالثانويات والمعاهد العصرية لينالوا حظهم من التعليم والارتقاء الاجتماعي ، فكان شباب البهاليل مضرب المثل في الجد سباقين في مدارج العلم والمعرفة مراتب الإدارة الحديثة لمغرب ما بعد الاستقلال.
البهاليل مدينة جميلة :
تظل البهاليل مدينة جميلة فاتنة الجمال هواؤها عليل وليلها ساحر، هادئة وآمنة ونظيفة ،تستمد جمالها من طيبة أخلاق أبنائها وحب نسائها للعمل واعتنائهن بنظافة البيوت والأزقة والشوارع . ما أهلها إلى نيل الميدالية الذهبية لأنظف مدينة في المغرب.
البهاليل مدينة متطلعة إلى مزيد من الرقي والازدهار.
بقلم ابن البهاليل الدكتور رشيد اليوسفي