أما نمط العيش فكان متشابها بحيث أن الجميع يأكل الفول، والعدس، وخبز الشعير، ويشرب الحليب. حتى أولئك الذين لا يمتلكون بقرة أوشاة، كانوا يشربون الحليب، إذ كانت تلك هي المادة الوحيدة التي لاتباع ولا تشترى. كانت أمي في كل صباح تحلب البقرة،فتأتي جدتي وتطلب من إحدى أخواتي طلبا أصبح تقليديا:هاكي أبنيتي. خذي هاد الحليبة لعند خالتك هنية، راها مسكينة ماعندهاشاي!
وبما أني كنت الأخ الأكبر، كنت أنعم بهامش ولو ضئيل من الحرية بالمقارنة بباقي إخوتي وأبناء عمي. كنت أعود إلى البيت في وقت متأخر قليلا دون أن يعاتبني جدي، فألمح من عتبة الباب لمبتين معلقتين في عمودين ناتئين من سقفي البيتين المتقابلين في اتجاه وسط الدار.كنت أجد إخوتي وأبناء عمي يلعبون وهم في غاية الانسجام والبهجة. كان عمي وأبي يجلسان في ركن من أركان الدار، منهمكان في حديث حميمي حول شغلهما بالفلاحة. أما جدي، ففي مكانه المعتاد، لا يقترب منه أحد، كأسد متكئ على وسادة على الحائط جنب باب البيت في جلسة ملكية. كان واضعا ظهره على الحائط، وأصابع يديه مشتبكة وراء رأسه، وساقا رجليه مجتمعتين بفخذيه حتى صارت ركبتيه قريبتين من وجهه. كان قد أزال عمامته من على رأسه ووضعها فوق إحدى ركبتيه ليصبح رجلين بدل رجل واحد: الأول يلبس عمامة، والثاني بدونها. اعتادت جدتي أن تصر على وضع صينية الشاي أمامه ليقينها التام بضرورة ذلك. أما أمي وزوجة عمي وأخواتي، فكن يقضين معظم وقتهن في المطبخ تحت إشراف جدتي. وكلما اقترب وقت النوم، يقف جدي ويشرع في إعطاء أوامره كالمعتاد. يبدأ بمناداة عمي وأبي في حزم:
ـ العربي! عبد القادر ! خذا معكما المختار والمهدي، وامحمد واذهبوا غدا صباحا للحصاد. ورشيد والعباس وعثمان، فليذهبوا للرعي. أما الباقي فسيرافقونني لسقي الجنان. والآن فليذهب جميعكم للنوم!
كان جدي عجوزا في الثمانين من عمره، شديد الحزم والصرامة. وبالرغم من كبر سنه، كانت صحته جيدة،كما كان قادرا على القيام ببعض الأعمال الخفيفة، والأخذ بزمام أمور العائلة. لم يكن أحد يجرؤ على التقليل من شأنه أو عصيان أوامره. سمعت أمي غير ما مرة وهي تطلب من أبي شراء بعض الأشياء الخاصة بها. يجيبها أبي في إحراج : ـ أخبري أبي! إذا سمح لي و اعطاني نقودا، اشتريت لك !
كانت امي في مرات تخبر جدي ،و مرات يغلبها الحياء ،فتتكتم علي الأمر،ثم تبتلع رغبتها و تبقيها داخل جوفها الى حين آخر. و مع ذلك تتظاهر بالرضى،و تعود لرسم ابتسامتها المعهودة على شفتيها الجميلتين،و تغوص في شقائها اليومي حتى يقظي الله أمر كان مفعولا… يتبع.
انها نوستالجيا الحياة المغربية التقليدية تحت دفئ التراحم و الانسجام العائلي و اللدي للاسف فقدناه اليوم.
كما قال الفنان نعمان لحلو: " كانت الحياة بسيطة و كانت الفرحة ديما ".
شكرا للأخ نجيب اتريد.
من خلال قراءاتي وتتبعي باستمرار لابداعات نجيب اتريد المنشورة في جريدة صفروبريس بشكل خاص يمكنني أن أعلن وبنوع من الجزم عن ميلاد كاتب يسير بخطى حثيثة نحو التألق في مجال السرديات. وما يزيد من الاندهاش وشدة الجذب في كتابات هذا المبدع الناشئ إضافة إلى تمكنه من تقنيات واليات السرد اختياره لموضوعاته من عالم الهامش على طريقة مشاهير الكتاب الذين ابتدؤوا محليين ثم صاروا نجوما عالميين قراؤهم يقدرون بالالاف إن لم أقل بالملايين. فمزيدا من التألق وتحية لك من ابن المدشر الذي أنت مهووس بانتقاء مادتك الخامة للكتابة من عالمه.