العالم

هشام جرندو : بوق المعارضة الوهمية أم مشروع اختراق ناعم؟

في عالم الإعلام الرقمي، لا شيء يُترك للصدفة. فحين يظهر صوت ما فجأة، ويتحول من مواطن عادي إلى “رمز معارض”، ويُمنح تغطية إعلامية واسعة، ويُبنى له جمهور بين عشية وضحاها، فإن الأمر يستدعي طرح الأسئلة لا التصفيق. هذا تمامًا ما ينطبق على حالة هشام جرندو، الذي قفز من هامش اليوتيوب إلى واجهة الجدل السياسي المغربي، تحت غطاء ما يسميه بـ”النضال ضد الفساد”.

جرندو لم يكن يومًا فاعلًا سياسيًا معروفًا، ولم يُعرف له نشاط حقوقي على الأرض، ولا مسار نضالي واضح. لكنه استثمر ببراعة في حالة الغضب الاجتماعي، وركب على الموجة الرقمية التي تعلي من شأن “الناقد الصاخب” على حساب “المصلح العاقل”. بدأ بنقد أسعار السوق والمرافق العمومية، ثم تحول فجأة إلى مهاجم شرس لكل مؤسسات الدولة، دون تمييز، ودون مقترحات بديلة، مع استخدام لغة تحريضية تتجاوز حدود حرية التعبير إلى تشويه ممنهج.

هذا التحول المفاجئ في نبرة الخطاب، تزامن مع تحسّن مريب في جودة الإنتاج البصري، وتكرار ظهوره في توقيتات حساسة، كالأعياد الوطنية أو فترات التوتر السياسي، مما يجعلنا أمام فرضية يصعب تجاهلها: نحن لا نتحدث عن مجرد مواطن غاضب، بل عن مشروع إعلامي بديل، صُنع بعناية، ويُوظّف لزعزعة الثقة في المؤسسات من الخارج.

وهنا، لا يبدو هشام جرندو استثناءً، بل هو جزء من ظاهرة قديمة عرفتها عدة دول في العالم العربي، حيث خرج من بين ظهراني الشعوب من تظاهر بالانتماء للمقاومة، ثم انكشف لاحقًا كأداة اختراق في يد الاستعمار أو قوى الهيمنة. الجزائر، على سبيل المثال، عرفت شخصية مثل أنطوان لافونتين، الذي قدم نفسه كمناصر للاستقلال، لكنه اشتغل سرًا لصالح الاستخبارات الفرنسية، وساهم في تفكيك شبكات المقاومة.

في لبنان، صبحي الطفيلي، أول أمين عام لحزب الله، قاتل الاحتلال الإسرائيلي في بداياته، ثم غيّر وجهته، وبدأ يهاجم رفاق الأمس ويمنح خطابه لقنوات معادية للمقاومة. أما في سوريا، فقد ظهر رياض الترك كرمز يساري مناهض للنظام، لكنه لاحقًا تبنّى خطابًا يُستعمل لتبرير التدخل الأجنبي، ولو على حساب سيادة البلاد. وقبلهم جميعًا، جمال الدين الأفغاني، الذي بشّر بالنهضة الإسلامية، لكنه نسج علاقات ملتبسة مع قوى استعمارية، مما جعل نواياه محل تشكيك.

ما يجمع كل هؤلاء هو نمط متكرر: صوت يخرج من رحم الشعب، يتغذى من وجع الناس، ثم ينحرف فجأة ليصبح سيفًا مسلّطًا على رقاب نفس الشعب. يبدأ من هامش الغضب، ثم يتحول إلى منصة لتغذية الإحباط، ولتشويه كل محاولة إصلاح أو استقرار. إنها “المعارضة القذرة”، التي لا تبني، ولا تصحح، بل تكتفي بالتهديم، لأنها في الأصل لا تنتمي للمجال السياسي، بل للوظيفة الإعلامية الموجهة.

ما يقوم به هشام جرندو اليوم ليس “حرية رأي”، بل هو أداء وظيفي محكوم بمنظومة واضحة المعالم: خطاب عدمي، تحقيري، تشهيري، يفتقر للعمق، ويزدهر بالفوضى. والأخطر من ذلك، أنه يخلط بين الشعب والوطن، فيصور الوطن عدوًا، وكل مؤسساته أدوات قمع، بينما يغفل – عامدًا أو جاهلًا – أن ما يصوره كـ”بطولة رقمية”، يُترجم خارجيًا كدليل إدانة لمؤسسات سيادية، تخوض معارك حقيقية ضد الإرهاب والتطرف والمخدرات والفساد.

في النهاية، نحن لا نعيش فقط معركة رأي، بل معركة وعي. والوعي يقتضي التمييز بين من يختلف مع الدولة من أجل بنائها، ومن يهاجمها ليُرضي مموّليه، أو يُرضي غروره. لقد آن الأوان لنفهم أن لا كل معارض نزيه، ولا كل ناقد وطني، وأن أخطر من الفساد، أولئك الذين يزعمون محاربته، وهم لا يفعلون سوى إعادة إنتاجه… بل وتدويله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى