صفرو

نجيب أتريد اليازغي يكتب : المتشردة (2)

playstore

رابط الحلقة الأولى : نجيب أتريد اليازغي يكتب : المتشردة (1)

… لقد ظل يتقرب منها ويغدق عليها العطايا حتى كسب ثقتها. وفي يوم استدعاها إلى منزله، وبعد أن أطعمها أحسن ما لديه من طعام، وألبسها مما لدى زوجته من لباس، أخذ يستفسرها عن حياتها، فاسترسلت في الحكي وكأنها كانت في حاجة لآذان صاغية تسمعها وعقول مصحصحة تفهمها وضمائر حية تنصفها.

sefroupress

   ـ أولا أنا لست من هذه المدينة، أنا من قرية نائية بسفح الجبل… هنا فكر العم حمزة بينه وبين نفسه قائلا: ” نعم أعرف ذلك جيدا لأن جل المجانين والمتشردين لا يبقون في قراهم، بل دائما ينزحون إلى أقرب مدينة ليعيشوا فيها، فربما في المدن يجدون من يعطف عليهم ويكرمهم أكثر من قراهم حيث عدد السكان قليل وأغلبهم فقراء، ففاقد الشيء لا يعطيه ! ” كانت المرأة مسترسلة في الحكي لا تعرف بأن الرجل قد شرد في تلك اللحظة ولم يكن يسمعها، ولما عاد من شروده، واصل الاستماع.

   ـ .. لا تنظر إلى وجهي وإلى هيأتي أيها الرجل الطيب وتظن أنني كنت هكذا! لقد كنت من بين جميلات البلدة. كنت عندما أريد اختراق النهر من أجل الوصول إلى الضفة الأخرى، أكشف عن ساقي وفي بعض الأحيان أفتعل السقوط في الماء ثم أعود وأنهض من جديد فتبتل ملابسي فوق جسدي وتظهر كل مفاتني، كنت أنظر إلى الشباب من حولي وهم مفتونون بي، فأحس بأنهم يريدون أكلي مثلما تؤكل الموزة من دون إزالة قشرتها.. !آه على تلك الأيام الجميلة.. !فيا ليتها تعود.. !لكن إياك وسوء الظن بي يا سيدي. لم أكن خارجة عن الطريق يوما. بحياتي ما ارتكبت فاحشة أو معصية. كنت أحرص على شرفي وعلى تجنب أي شيء يغضب الله وأعمامي. بالمناسبة كنت أعيش مع أعمامي فقط لأن والداي متوفيان وليس لدي إخوة. أما بخصوص العمل، فكان الرجال أنفسهم يحسبون لي ألف حساب. كنت أعمل ليلا ونهارا بدون كلل أو ملل: أزرع وأحرث الأرض وأحصد المحصول ثم أرعى الغنم. كنت أتسلق الأشجار لأقطع لها الأوراق المخضرة في أوقات الجفاف، كما كنت أذبح الخرفان وأسلخها بيدي هاتين في حالة أصابها مكروه كي أنقذ ما يمكن إنقاذه وأقلل من الخسارة. كانت الأيام جميلة والخير وافر، لكن “المنحوس منحوس حتى لو علق على جبينه فانوس!” كل بنات الحي تزوجن إلى أنا. بقيت أعمل داخل المنزل وخارجه. كنت أربي أبناء وبنات أعمامي دون أن أنال أي اعتراف من أحد؟ كانوا ينظرون إلي كخادمة لهم وكدادة لأطفالهم. كان حالي مائلا لكنني كنت من الحامدات الشاكرات إلى أن جاء اليوم المنحوس الذي أبت فيه الشمس أن تشرق.. قالت هذه الكلمات بعد أن تغير لون وجهها واغرورقت عيناها بالدموع فأجهشت بالبكاء. أخذ العم حمزة في مواساتها وحثها على استكمال القصة. وبعد بضع دقائق من الصمت استرسلت في الكلام:

   ـ ذات يوم خرجت للرعي وحدي كعادتي. كان المرعى خال من كل شيء، فلا طير يطير ولا وحش يسير، كانت معنوياتي عالية بحيث شرعت في الغناء بصوت مرتفع ظنا مني أن أغنامي الوحيدة التي تسمعني، وبدون شك أنها سعيدة بذلك، فالغناء يفتح شهيتها للأكل فتأكل بنهم حتى تشبع، كنت أتتبع أفواهها وهي تقضم الحشيش فأسعد بذلك، وإذا حدث ووصلت إلى منطقة فيها حشيش ولم تقضم منه ولو قضمة واحدة، أحزن وتصد نفسي عن الأكل. لكن فيما بعد اتضح لي بأنني لم أكن لوحدي في ذلك المكان، وكذلك لم تكن الغنم لوحدها تسمع غنائي، وإنما كانت هناك ذئاب وضباع مختبئة في كهوفها تسمع وتنتظر الفرصة السانحة للانقضاض علي والنيل مني. في لحظة شعرت بأن الأمور لم تكن طبيعية، وإنما كانت هناك طبخة دسمة تطبخ لي. لا أخفيك سرا أن الخوف قد بدأ يدب في عروقي من رأسي حتى أخمص قدمي بالرغم من كوني قوية وكل سكان القرية يعرفون ذلك. بدأت أستعجل الغنم في العودة إلى القرية حيث يوجد البشر. لكن الوقت لم يسعفني. كان الطريق طويلا ووعرا. وفي ذلك الحين طلع علي أربعة رجال لا أعرفهم لأنهم من قرية غير قريتنا. حاولت أن أضبط نفسي وأظهر قوتي، لكن التيار كان أقوى مني. رفعت العصا في وجوههم وحاولت الدفاع عن نفسي، فانقضوا علي كالنسور الكاسرة. لم أستسلم، بقيت أدافع وأدافع عن نفسي، ولكنهم كانوا الأقوى. وعندما تأكدت من قوتهم وجبروتهم، غيرت طريقتي في الدفاع، حاولت أن أستعطفهم وأطلب الرحمة منهم، لكن الشر كان يشع من أعينهم ولا شيء يمكن أن يردهم. بدأت أصرخ حتى بح صوتي ولا من يسمعني. لقد خرت قواي وانهارت عزيمتي وأدركت أن مصيري هو الضياع. خصوصا لما أتاني أحدهم من الخلف وقيد يداي، وجاء آخر وأغلق فمي بقطعة ثوب، وبذلك سجن صوتي داخل حلقي، فاستسلمت لمصيري رغما عني والنار تأكل أحشائي؛ وفي الأخير أطلقوا سراحي بعد أن تركوني أشلاء ثم فروا الواحد تلو الآخر. حاولت أن أسترد قوتي وأقف على قدمي فما استطعت ، وبقيت أحاول وأحاول حتى تمكنت من ذلك أخيرا، لكنني ذعرت لرؤية الدم يسيل على فخذي وحينها تيقنت من أن مصيبة فظيعة قد حلت بي وأن ما سيأتي سيكون أعظم وأبشع. يا ويلي… يتبع

playstore

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WeCreativez WhatsApp Support
فريق صفروبريس في الاستماع
مرحبا