
بانقداح الشيخ المقرئ عبد اللطيف بوعلام
مما لا ريب ومين وشك فيه أن الكثير من المسلمين والمسلمات في بقاع العالم الإسلامي يهرعون إلى أداء الواجبات الدينية المعتادة كالصلوات في وقتها، وصوم رمضان، وشد الرحال لمناسك الحجات والعمرات تحقيقا لأرقام تعدادها مع أخذ الذكريات من عين المكان بثا مباشرا للأهل أو تسجيلا على الهواتف إلى حين العودة تبيانا لجزئيات تلكم الرحلات التعبدية للأحباب والأصحاب لقيام الحجة على رب الأرباب في استحقاقهم لأعالي الجنان؛ وهذا لعمري هو الرياء الشرك الخفي الممقوت والموجب للنار، والعياذ بالله…
وحتى الأناس العاديون منهم قد ترسخ في أذهانهم من أن الذين يفعلون تلك الفروض والأعمال الصالحة يتصورون من باب الاتباع والسذاجة أن أداءهم لمثل تلك العبادات بنية صادقة هو أكبر ورقة ضامنة لهم لدخول الجنة.
والحقيقة الصادمة هي أن القرآن لم يعط ضمانا على الإطلاق بدخول الجنة قياما بالطقوس الاعتيادية المشتركة والمستحيلة على البعض لضيق ذات اليد.. إنما أعطى الأولوية لأمور أخرى مادية ومعنوية قد غفل عنها الكثيرون، وهي في متناولهم كورقة تعزيزية لدخول الجنة أقرتها بجلاء ووضوح آيات اجتياز مانع العقبة المؤكَّد في اقتحام عمل منه للظفر بجنة الخلد، قال تعالى في سورة البلد شارحا تفاصيل هذه الحواجز والمراقي المزمع صعودها:
* فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)*.
فيا له من كلام ووصف دقيق وجمال ونسج أدبي رائع يفوق سبح الخيال في قرعه الآذان بتلكم الآيات الصادرة عن الكبير المتعال؛ حيث ابتدر سبحانه وتعالى المَقول في بيان أول عقبة تعيق المسلم ( الكلمة على عمومها تشمل الذكر والأنثى باعتبارهما شقيقين في الأحكام ) عن دخول الجنان من خلال فكه للرقبة بمعنى تحريره لأخيه الإنسان من العبودية أوالرِّق) .
وهذا الأمر بفك الرقاب مذكور بقوة صادحة في الوجوه الخاصة بمصارف الزكاة متضمنة في قوله عز وجل بسورة التوبة: * إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)”.
قد يثور هناك تساؤل مشروع مفاده أن البشرية قطعت أشواطا في محاربة استعباد العباد إلا ببعض المناطق البدائية البعيدة عن الحضارة وتعليمات الأمم المتحدة الحاثة على الحرية وصون الكرامة الإنسانية؛ حيث يتعذر الآن وجود هذا الصنف لفكه… هنا يمكن لنا أن نبحث عن مخرج مقارب ومؤَوَّل لهذا العمل محمول على أن البشر في زماننا الحالي قد يكونوا عبيدا للفقر والجوع والظلم والهوان، وهذه الحالات مشاهدة بالعيان، تبثها القنوات ووسائل التواصل الاجتماعي على التو لحظة بلحظة، والواجب يقتضي من الناس جميعهم، فبالأحرى المسلمين إنقاذ إخوانهم من ذل العوَز والاحتياج والقهر والظلم طريقة مُثلى ذات أولوية فُضلى لفك رقابهم.
ثم نأتي للضميمة الثانية للعقبة المزمع تخطيها كما هو مذكور في الآيات، والخاصة بإطعام اليتيم في يوم (ذي مسغبة اي مجاعة خطيرة)، يتيماً ” قريبا” ذا مقربة، والقُرب قد يكون قرابة الدم أولى أو قرب المكان عند اكتفاء البلد أو في الإنسانية عامة باعتبارها نفسا مكرمة عند الله. وينسكب هذا الإطعام كذلك على المسكين الذي تقطعت به السبل، وهو في قمة ضعفه وقلة حيلته حتى أنه عجز عن الاستحمام لإزالة التراب عن جلده تعبيرا بلاغيا عن البؤس في قمته بقوله: ” أو مسكينا ذا متربة “. وتلاحظ أن الكلام مُساق بالنكرة لأجل التعميم كنحو قوله عز من قائل بسورة الإنسان في ثنائه على عمل الأبرار الأخيار ووعده لهم بدخول الجنة ونعيمها الأبدي: “.. وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنٌّمّا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ، لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)..
ثم يأتي الدور لشرح كيفية اقتحام العقبة الأخيرة المتبقية، وهي شرط القبول والمصادقة على ختم الأعمال من كون المجتاز لها مندرجا في سلك إخوانه المؤمنين المتواصين بحلية الصبر والشفقة والرحمة التي تدعو إلى جبر الخواطر والعدل والإنسانية ومد يد المساعدة بلا تردد وتلكؤ لكل من يحتاجها بشرا كان أو حيوانا أو غير ذلك ممن هو في وضعية حرجة؛ ثم ولابد للعبد من إيمانه الصادق بالمكافئ ( الخالق الرازق ) على الأعمال صغيرها وكبيرها شرط لقَبولها ودخول الجنة كما هو منصوص عليه في قوله تعالى بسورة النحل: * مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 97).
روى الطبراني في الأوسط عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه قال: ” أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور يُدخِله على مسلم، أو يكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دَيْنا، أو تطرد عنه جوعا “.
وإنها لأعمال بسيطة وسهلة على من وفقه الله لفعلها، ولسوف نرحل عن هذه الدنيا الفانية، ويبقي الذِّكر والأثر الطيب.
فيا ترى من منا قد اقتحم العقبة في هذه العتمة والظلمة الأخلاقية ففاز بالجنة؟!