ـ توطئة:
خلال الجزء الخامس من سلسلة المقالات حول تاريخ قيادة “بني يازغة” سنحاول إلقاء بصيص من الضوء حول بعض حركات التمرد والعصيان بقبيلة بني يازغة (دوار امطرناغة نموذجا) مع الإشارة لبعض مظاهر التنافس مع القبائل المجاورة؛ وإبراز ضلوع تدهور الأوضاع الأمنية، وتضعضع الاستقرار وطنيا في إذكاء الصراع المحلي وتفاقم المشكلات الترابية. كما سنتطرق إلى نماذج التواصل بين السلطان وقائد القبيلة من خلال بعض المراسلات المتبادلة بين الطرفين إبان الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي. والدور الكبير لهذا الأخير في فرض النظام، والحفاظ على الاستقرار، وحمل الأهالي على الطاعة والامتثال في مجموع التراب تحت نفوذه.
تنامي الصراع بين قبيلة بني يازغة والقبائل المجاورة، مع تبادل السلب والنهب، يزعزع الاستقرار، ويضيق على أنشطة الساكنة
ترجل القائد حمادي البوكريني عن صهوة جواده، وسلم الخطام في شرود لخادمه، وسار في هدوء وتثاقل على غير عادته نحو حصنه الذي يعتلي ربوة شامخة بدوار أولاد مكودو.. وقد بدا جليا على ملامح وجهه أنه منهمك في تفكير عميق؛ وأن الأحداث الأخيرة تنهكه وتشغل باله بشدة، وتؤرق نومه، وتعكر صفو حياته.. لقد عاد الصراع والتنافس بين قبيلته والقبائل المجاورة إلى الواجهة. وعادت الأحداث سريعا تعرقل مساعيه لفرض النظام وتأمين الاستقرار. ورجعت قبيلة بني سادن إلى المجاهرة بالعداء، والتطاول على الرعية، والاستمرار في نهب الماشية.. مع قطع الطريق الوحيدة إلى فاس والتي لا غنى له ولقبيلته عن المرور بها. والأنكى من ذلك أنهم تمادوا على المبارزة بالعصيان والتمرد، مستهترين بالمخزن وغير عابئين بمجهوداته لتطويق الصراع، ووأد العداء، وتجنب أسباب الفتنة التي مافتئت تنتشر كالنار في الهشيم؛ رغم تقدمه إلى وجهائهم بالأعذار غير ما مرة.
عادت به الذاكرة إلى ثلاث سنوات خلت، وتذكر حملة العاهل مولاي الحسن إلى هذا الثغر العنيد سنة:1291هجرية، وتذكر كيف شارك مع جيوش السلطان الذي انتقل بنفسه لتأديب قبيلتي بني سادن وأيت سغروشن المناصرتين لثوار المغرب الشرقي. فأوقع بهم وقتل وأسر، وانتسفت الجيوش زروعهم، وبعثرت أرضهم وديارهم، إلى حين الاستسلام وعودة الأهالي تائبين خاضعين مذعنين في أوائل شعبان من العام 1291 هجرية/1874ميلادية.
أرسل تنهيدة حارة، وتمنى في قرارة نفسه لو كان السلطان مقيما بمدينة فاس في الوقت الحالي. وقد علم يقينا أن الحملة الأخيرة، لم تردع هذه القبيلة.. ولم تقض نهائيا على حركات التمرد بها. وأدرك جيدا أن الاستقرار المحلي بهذا الثغر بعيد المنال في الظروف الحالية، وأن قمع الاضطرابات وإخماد الفتنة بشكل نهائي يحتاج إلى نفس طويل، وصبر جميل، وعيون متيقظة باستمرار.
تمرد أهالي امطرناغة وأولاد سحنون يجبر القائد اليازغي على تجريد حملة تأديبية لإعادة الاستقرار بهذا الثغر العنيد بعد الاستشارة مع السلطان
تطلع القائد حمادي اليازغي في غير ما اهتمام إلى البساتين الممتدة أمامه إلى مشارف هضبة دار حقون التي تقبع في شموخ وإباء خلف أشجار الزيتون؛ ثم ولى نظره غربا نحو المنحدر الممتد في اتجاه حاضرة المنزل.. وقد راقبت عيناه الطريق في تمعن وترقب وارتياب.. وقطب جبينه مسترسلا في تفكير عميق. لم تعد أحوال الاضطراب بالقبائل المجاورة، وحال عدم الاستقرار بالبلاد هي كل ما يشغل باله، ويقض مضجعه، وينهك تفكيره في الوقت الحالي.. لقد تواردت إليه الأخبار بانتقال عدوى التمرد، وانتشار العصيان بتراب قبيلته.. وحدث ما لم يكن في الحسبان. فقد تجرأ فريق أولاد سحنون، وتطاول حرس امطرناغة، على الخروج عن الجماعة، وكسر فروض الطاعة.. وعصيان الأوامر المطاعة.. وتقاعدوا عن القيام بالواجبات.. وأداء الجبايات.. ونصرة الجيش، وأخلوا بالتزاماتهم تجاه القائد والسلطان. مع المجاهرة بالعداء والمكر، والاشتغال بالفساد…
وهو أمر جلل يحتاج إلى حزم كبير، ويتطلب إلى همة عالية، مع سرعة في التنفيذ لتطويق الصراع، واستئصال الفتنة. في الوقت الذي هو فيه أحوج ما يكون إلى جمع الشمل، وتوفير الجهد، ووأد أسباب الانقسام والعداء والتشرذم. لمواجهة الاضطرابات الخارجية، وبسط النظام والأمان، وفض النزاعات وقمع حركات التمرد على الحدود مع القبائل المجاورة… وقد علم يقينا أن قليلا من المرونة والتغاضي أو التسامح بشأن هذه السلوكات؛ قد تجعل التسيب يعم أرجاء القبيلة، وتعجل بانتشار الفوضى وقدوم زمن السيبة. خصوصا وأن أهالي امطرناغة معروفون بقوة الشكيمة، وصلابة العود، والأنفة والانفعال الشديد لأتفه الأسباب. وقد جبلوا على العناد والتعنت والمكر، ومردوا على الجرأة على النظام.. والتضييق على الحكام.. والمبارزة بالأمور العظام.
لقد استقر رأي القائد اليازغي أخيرا على تجريد حملة تأديبية من أبناء المنطقة لإعادة الاستقرار بهذا الربع العنيد من القبيلة. حتى يستقيموا ويرجعوا للجادة. لكن خوض معركة حاسمة كهاته في ظل الظروف الراهنة يحتاج إلى إخبار السلطان وطلب مشورته والاستعانة به لحث الوجهاء والأعيان لخوض هذه الحرب الأهلية. فكتب في ذلك إلى السلطان مطلع شعبان من العام 1294 هجرية/ 1877 ميلادية.
وفي الوقت الذي يصل فيه كتاب قائد بني يازغة إلى السلطان مولاي الحسن الأول، فإنه يكون بعيدا عن العاصمة فاس. منشغلا بالقضاء على تمردات القبائل المجاورة للرباط؛ بعدما توجه في حملة جديدة إلى زمور ليقابله أهلها متضرعين، مظهرين له خضوعهم، ويؤدوا له من المؤن والضيافات الشيء الكثير. ثم ينتقل إلى غزو عرب السهول بضواحي سلا… وبعد مطالعته لمضمون الرسالة، ووقوفه على جلية الأمر وواقع الحال؛ فإنه يكتب إلى القائد على أبواب شهر رمضان (27 شعبان 1294هجرية/ 1877ميلادية) يوافقه الرأي على حرب امطرناغة مرفقا بكتابه إلى قبيلة بني يازغة يستحثهم ليحركوا لهم حتى يستقيموا للجادة. وفيما يلي النص الكامل لكتاب السلطان مولاي الحسن الأول للقائد حمادي البوكريني اليازغي: “خليفة خادمنا الأرضى القائد حمادي اليازغي وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله وبعد فقد وصلنا كتابك مخبرا بأن فريق أولاد سحنون ومكر حرس مطرناغة اشتغلوا بالفساد وتقاعدوا عن أداء ما يجب عليهم مع إخوانهم في الكلف وطلبت الكتابة لقبيلة بني يازغة ليحركوا لهم حتى يستقيموا ويرجعوا للجادة وها نحن كتبنا لهم بذلك وكتابهم في ذلك يصلك والسلام في 27 شعبان عام 1294 هجرية.”