
تشكل أطروحة الدكتور رشيد الفلاح الموسومة بـ صناديق الاستثمار الإسلامية: دراسة فقهية وقانونية واقتصادية إضافة نوعية للنقاش الأكاديمي والاقتصادي حول مستقبل المالية الإسلامية، ليس فقط بوصفها بديلا تقنيا للنظام المالي التقليدي، بل باعتبارها مشروعا فكريا وتنمويا يعيد الاعتبار للإنسان داخل العملية الاقتصادية، ويقترح أجوبة عملية عن أزمات بنيوية تعاني منها الاقتصادات المعاصرة، خاصة في المغرب وإفريقيا.
تنطلق الأطروحة من مسلمة مركزية مفادها أن فقه المعاملات المالية في الإسلام لم يكن يوما فقها ثانويا أو هامشيا، بل شكّل أحد الأعمدة الأساسية في بناء العمران الإنساني وتنظيم حركة المال داخل المجتمع. فقد ارتكز منذ نشأته على قيم أخلاقية صارمة، من قبيل تحريم الربا والغرر والاحتكار، وربط الكسب بالمشروعية، وتحقيق التوازن بين المصلحة الفردية والمصلحة الجماعية. غير أن تعقّد البنى الاقتصادية الحديثة، وبروز الدولة والمؤسسات المالية الكبرى، فرض انتقال فقه المال من التعاقد الفردي البسيط إلى العمل المؤسسي المركب، وهو ما أفرز المالية الإسلامية المعاصرة كاجتهاد يسعى إلى التوفيق بين المرجعية الشرعية ومتطلبات الاقتصاد الحديث.
في هذا السياق، تبرز صناديق الاستثمار الإسلامية، كما يعالجها الدكتور رشيد الفلاح، كأداة مركزية لهذا التحول، لأنها تجسد الانتقال من منطق المضاربة والريع إلى منطق الاستثمار المنتج، ومن تراكم المال في القنوات غير الحقيقية إلى توجيهه نحو مشاريع تنموية ذات قيمة مضافة. وتكتسي هذه الصناديق أهمية خاصة في السياق المغربي، حيث لا تزال التجربة التشاركية في طور التأسيس، وتعاني من محدودية أدوات الاستثمار الجماعي القادرة على تعبئة الادخار الوطني وتوجيهه نحو التنمية المستدامة.
وتبين الأطروحة أن صناديق الاستثمار الإسلامية لا تقدم مجرد بديل مالي، بل رؤية مختلفة للاقتصاد برمته. فهي تساهم في تنويع مصادر التمويل، وتقليص الارتهان المفرط للقروض البنكية، وتحويل المدخرات الساكنة إلى رأسمال منتج، كما تعزز الاستقرار المالي عبر تقاسم المخاطر بدل تركيزها على طرف واحد. وهو ما يجعلها أقل عرضة للأزمات الدورية التي يفرزها النظام الربوي القائم على الفائدة والمضاربات المنفصلة عن الاقتصاد الحقيقي.
وعلى المستوى الاجتماعي، تبرز هذه الصناديق كآلية فعالة للشمول المالي، من خلال إدماج فئات واسعة ظلت خارج المنظومة البنكية التقليدية، إما بدافع ديني أو بسبب هشاشة الدخل. كما تسمح بتوجيه الاستثمارات نحو قطاعات تمس حياة المواطنين بشكل مباشر، كالسكن، والتعليم، والصحة، والمقاولات الصغرى، بما يجعل الربح مرتبطا بتحسين شروط العيش، لا باستغلال الحاجة أو تعميق الهشاشة.
وفي مقارنة ضمنية وصريحة، تكشف الأطروحة الفرق الجوهري بين منطق الاقتصاد الإسلامي ومنطق البنوك الربوية. فهذه الأخيرة لا ترى في الإنسان سوى رقما في معادلة الربح، وتتعامل معه كوسيلة لا كغاية، حيث يتحول الدين إلى أداة استنزاف، والفائدة إلى عبء دائم، والأزمات إلى فرص لمراكمة الأرباح. أما الاقتصاد الإسلامي، كما تؤطره صناديق الاستثمار الإسلامية، فيضع الإنسان في قلب العملية الاقتصادية، ويجعل المال وسيلة لخدمة المجتمع وتحقيق العدالة، لا غاية قائمة بذاتها.
وقد دعّم الدكتور رشيد الفلاح هذا التصور بدراسة تجربتين دوليتين رائدتين، هما التجربة الماليزية والتجربة السعودية. فقد أبانت الأولى عن قدرة عالية على الابتكار التشريعي والمؤسسي، في حين كشفت الثانية عن عمق فقهي ومتانة في منظومة الرقابة الشرعية. وخلصت المقارنة إلى أن النجاح الحقيقي يكمن في الجمع بين المرونة القانونية والانضباط الشرعي، وهو الدرس الذي يمكن للمغرب الاستفادة منه في بناء نموذج وطني فعال لصناديق الاستثمار الإسلامية.
وانطلاقا من هذا التحليل، تقترح الأطروحة رؤية استشرافية لإدماج هذه الصناديق في المنظومة المالية المغربية، عبر سن إطار قانوني خاص، وتفعيل الحوكمة المزدوجة الشرعية والمالية، وربطها بالبنوك التشاركية والتأمين التكافلي وسوق الرساميل، مع توجيهها لخدمة أولويات التنمية الوطنية، خصوصا في مجالات البنية التحتية، والطاقات المتجددة، والتنمية الجهوية.
إن قيمة هذه الأطروحة لا تكمن فقط في بعدها الأكاديمي، بل في كونها تطرح بديلا واقعيا لأزمات اقتصادية واجتماعية متفاقمة، وتعيد طرح السؤال الجوهري حول طبيعة النموذج الاقتصادي المنشود. فهي تؤكد أن الاقتصاد الإسلامي ليس اقتصاد أرباح مجردة، بل اقتصاد قيم، يراعي الإنسان قبل الربح، ويجعل التنمية غاية شاملة لا رقما في التقارير. وبهذا المعنى، تشكل أطروحة الدكتور رشيد الفلاح جسرا بين فقه المال وهندسة التنمية، وبين الأصالة الشرعية ومتطلبات العصر، وتفتح أفقا جديدا لإعادة التفكير في التنمية بالمغرب وإفريقيا على أسس أكثر عدلا وإنسانية.




