تحرك صديق الليل وربيب النجوم ، بخطوات رزينة ، متجولا في أحياء المدينة وعيناه تترقبان في تمعن كل جديد ممكن ، ثم حول عصا الزيتون الغليظة من يسراه إلى يمناه ، ملوحا بها في قسوة وغلظة ، كأنه يتوعد كل شخص مريب بالجوار ، ويهدده بالويل والثبور . تنحنح بصوت خشن شق هدوء الليل قبل أن يسعل متعمدا لمرات وهو يجول بعينيه في كل الاتجاهات لتمشيط الحي من كل غريب ، وبعث الطمأنينة في نفسه قبل نفس النائمين الواثقين به ، فأسفرت شفتاه أخيرا عن ابتسامة رضى ، منهيا جولته الروتينية ككل ليل . عاد إلى جوار بيت كبير بشرفة عظيمة ـ اعتاد أن يحتمي تحتها من ويلات البرد والشتاءـ وجلس القرفصاء متكئا على عصاه ومسندا ظهره للجدار وعيناه تلمعان وسط الإنارة الخافتة .
مرت اللحظات ببطء شديد ، وسط سكون الليل ، وقد استسلم الأحياء جميعا لملك الرقاد ، وهدأت الحركة تماما . وخمدت كل الأصوات إلا تلك المنبعثة من معدة الحارس ، وحركة عينيه تجوبان المكان في حذر وترقب.. وسرعان ما أحس بالملل والإرهاق ، وتمنى أن ينعم كغيره بدفء الغطاء ونعومته . فكر في آخر مرة تمتع فيها بهذه النعمة ، فأدهشه أنه لم ينم في بيته ليلا منذ سنوات.. منذ أصبح حارسا ليليا ، إنها نعمة كبيرة لا يشعر بها كثير من الناس ، ولا يؤدون حق شكرها كما يجب.. نعمة النوم التي حرم منها لسنوات لأجل بضعة دريهمات لم تعد تكفيه مع أسرته الصغيرة. شعر بغصة ألم كبيرة عند هذا الحد ، وأحس بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقه وسط كل هذا الحرمان ، ثم تنهد بعمق وقد أدرك الهوة السحيقة بين أجره الزهيد ، وبين مقومات العيش الرغيد ، وبدل البكاء ، وجد في نفسه رغبة ملحة ليحلم بأشياء استعصى عليه تحقيقها ولا يدركها إلا في الخيال : ووجد نفسه يحلم ببيت كبير كذلك الذي يجلس تحته ، ويحلم بالنوم على فراش وثير ، و يحلم بأن يحلم . شعر عند هذه النقطة بغبن كبير ، فهو الشخص الوحيد الذي لا يحق له أن يحلم كباقي الناس ، لأنه يظل مستيقظا طوال الليل، قدره أن يكتفي بأحلام اليقظة.. أحس بأن مؤلف تفسير الأحلام لم يخطر بباله يوما أن يوجد أشخاص لا يحتاجون إلى كتابه، وأنهم يجدونه فارغا بدون معنى.. وتمنى أن يوجد كتاب لتفسير أحلامه هو.. أحلام اليقظة ، التي ارتبط بها ليله الطويل. ثم تنهد بعمق وقد علم أن تفسير الأحلام فقط مطمح كبير بالنسبة إليه ، فكيف الحال بتحقيق هذه الأحلام!!
ثم ما لبث أن أحس بحركة مريبة ، انتبهت لها حواسه بغتة ، فقفز من مكانه دفعة واحدة ليستطلع الأمر ، وإذا به يحس بآلام رهيبة في ظهره مع الحركة غير المدروسة التي قام بها . بحثت عيناه طويلا عن مصدر الصوت فإذا بقط ضخم يصارع دلو القمامة ليفتحه! فعاد إليه هدوءه ، وانتظمت دقات قلبه مع مرور الوقت ، وإن بقيت آلام ظهره على حالها ، فرجع إلى مكانه تحت الشرفة وهو يفكر في حل لتجاوزها ، إنها تعاوده بين الفينة و الأخرى منذ مدة بسبب البرد ، ولا يعرف طريقة للتخلص منها . فمصاريف الطبيب غير مقدور عليها ولا يتحملها الأجر الزهيد الذي يحصل عليه ، كم تمنى تجاوز الآلام وهو يفكر في أنه أحوج الناس إلى التمتع بتغطية صحية تكفيه شر المرض.. ولكنه عاد ليتذكر أنه رجل قدر له أن يحرم من كل شيء : فلا سبيل إلى التغطية الصحية ، أو حتى إلى دفء الغطاء!