أجرؤكم على الفتوى أجرؤكم على النار باعتبار المفتي نائبا وموقِّعا عن الواحد القهار

بانقداح الشيخ عبد اللطيف بوعلام وقلمه الصارم البتار
إنه للعجب العجاب وإيذان بقرب قيام الساعة أن تجد عرمرما من الجهال والجاهلات والمؤثرين والمؤثرات وأنصاف العويلمين والعويلمات على المنابر والسوشيل ميديا يتكلمون ويفتون في الدين بغير علم ويقين متسوِّرين حدود الله التي رسمها لعباده المؤمنين في كتابه المبين وسنة نبيه المبعوث رحمة للعالمين، مستعملين ذوقهم ورأيهم في كل شاذة وفاذة وشاردة وواردة من باب التيسير لمواكبة مستحدثات العصر، دون الرجوع إلى الضوابط التي اشترطها العلماء الجهابذة في المُنبري لهذه المَهَمَّة الصعبة والخطيرة في استنباط الأحكام الشرعية تنزيلا للمستجدات الآنية لتبيان الحق للعازفين على الأوتار الحساسة مناداة للمساواة بين الجنسين والحرية الشخصية واحترام خصوصيات الأقلية، وهلم جرا من الأفكار المُخرجة عن الملة في محاربتها الصريحة للنصوص الشرعية الواضحة الدلالة بدعوى مسايرة العولمة والعلمنة.
قال الله تعالى بسورة النحل: * وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ ( 116 ) *.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جُهالاً، فسُئِلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا “. الحديث (رواه البخاري ومسلم).
هذا الحديث العظيم يوعز لنا بوضوح أهمية العلماء ودورهم في حراسة وحفظ الدين ونشر العلم وضبط المسار وتقويم المسير؛ إذ هم بحق ورثة الأنبياء، وهم المخوَّل لهم تبيان أحكام الله وشرائعه للناس.
قال تعالى بسورة التوبة: {وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (123)}.
فإذا فقدناهم، حلَّ الجهل مكان العلم، وصار الناس يتبعون من لا علم عنده، فيَضِلون ويُضَلون.
ونسوق لذلك واقعة حدثت في عهد علم الهدى والأنوار في انبراء الجهلاء والأميين للإفتاء دون سؤال أصحاب الاختصاص مفادها ما رُوي عن أبي داود وغيره من حديث جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: ” خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَر فَشَجَّهُ فِي رَأْسِه ثُمَّ احْتَلَم فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ، فَمَاتَ. فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: “قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّه أَلَا سَأَلُوا إِِذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاء الْعَِيِّ ( بفتح العين وكسرها هو العاجز الكالُّ والجاهل بالأمر ) السُّؤَال إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّم وَيَعْصِب عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ “، فأخبر أن الجهل داء، وأن شفاءه السؤال. هذه واحدة، والثانية أن الحق سبحانه وتعالى أمرنا باتباع أهل العلم في قوله بسورة النحل: * فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.. * الآية( 43).
وبالرغم من ذلك، فعلى المستفتي أخذ الحيطة والحذر وتوخي التقوى والورع في أي شبهة معترضة، فقد حكى لنا الشاطبي في الموافقات قصة بمعناها، وابن الجوزي في صفوة الصفوة من ان اﻣﺮﺃﺓ جاءت إﻟﻰ ﺍﻹﻣﺎﻡ ﺃﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﺣﻨﺒﻞ رحمه الله ﻓﻘﺎﻟﺖ: ” ﻳﺎ ﺃﺑﺎ ﻋﺒﺪﺍﻟﻠﻪ، ﺇﻧّﻲ اﻣﺮﺃﺓٌ ﺃﻏﺰﻝ (ﻏﺰﻝ ﺍﻟﺨﻴﻮﻁ من الصوف والقطن والكتان ﻟﺼﻨﻊ ﺍﻟﻤﻼﺑﺲ) ﻓﻲ ﺿﻮﺀ ﺍﻟﺴﺮﺍﺝ، ﻓﻴﻤﺮُّ ﺑﻨﺎ ﺍﻟﻌَﺴَﺲ (ﺭﺟﺎﻝ ﺍﻟﺸﺮﻃﺔ) ﺑﺎﻟﻠﻴﻞ ﻳﺤﻤﻠﻮﻥ ﻣﺸﺎﻋﻞ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ. ﺃﻳﺤِﻞُّ ﻟﻲ ﺃﻥ ﺃﻏﺰﻝ ﻋﻠﻰ ﺿﻮﺀ ﻧﺎﺭﻫﻢ؟ ﻓﺒﻜﻰ ﺍلإﻣﺎﻡ أﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﺣﻨﺒﻞ ﻭﻗﺎﻝ ﻟﻬﺎ: ﻣﻦ أﻧﺖِ؟ ﻓﻘﺎﻟﺖ: أﻧﺎ أﺧﺖ ﺑِﺸْﺮٍ ﺍﻟﺤﺎﻓﻲ. ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻬﺎ: ﻣﻦ ﺑﻴﺘﻜﻢ ﻳﺨﺮﺝ ﺍﻟﻮﺭﻉ ﺍﻟﺼﺎﺩﻕ، ﻻ ﺗﻐﺰﻟﻲ على ﺷﻌﺎﻋﻬﺎ “، ولو كانت امرأة غيرها لأفتاها بغيرها ( أي: بضدها من أنه لا حرج ولا إثم عليك في ذلك الفعل)، ولذلك ﺑﻜﻰ ﺍلإﻣﺎﻡ أﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﺣﻨﺒﻞ ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻟﺴﺆﺍﻝ ﺍﻟﺪﻗﻴﻖ ﺟﺪﺍ، ﻭﺧﻮﻑ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺮﺃﺓ ﻣﻦ أﻥ ﺗﻘﻊ ﻓﻲ ﺷﺒﻬﺔ ﺍﻟﺤﺮﺍﻡ! فهذا هو الورع وما أدراك ما الورع. أما الآن فالمسلم يرى آلاف الشٌُبَه تحيط بفتواه، وتراه يسأل علماء العالم مراوغا إياهم ليحللوا له مسألته، والسبب يُعزى في نظري إلى أن معظم أهل الذكر الآن قد ركبوا تيار الدرهمة والشهرة في تطويعهم للأحكام وتراشقهم بالأدلة الباهتة مزهوين من أن كل إنسان بعد النبي صلى الله عليه وسلم يُؤْخذ من قوله ويُرَد عليه متكئين على قولة الإمام مالك الشهيرة رحمه الله: * كل أحد يُؤخذ من قوله ويُترك إلا صاحب هذا القبر*، وأشار بذلك إلى قبر رسولنا صلى الله عليه وسلم.
ولما رآهم أنصاف العلماء والعامة على هذه الحال تطاولوا عليهم، وأصبح من هبَّ ودبَّ يطعن في مصداقيتهم وتحميلهم مسؤولية التقهقر والتخلف الذي تعاني منه الأمة على جميع الأصعدة. مما أنتج لنا جيلا يغرد على هواه، ويفتي في الأمور الدقيقة بحسب فهمه القاصر للمنطوق الرباني والحديث النبوي لغويا ومقصدا شرعيا، والمنازعة في الحِلِّية والحِرْمة من اختصاص رب العزة ورسوله الناطق عنه وحيا. قال تعالى بسورة الحج: * لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ۖ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ۚ وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ ۖ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍ (65). بمعنى أن لكل أمة من الأمم السابقة جعل الله لها شريعة وعبادة خاصة بها، وهم ملتزمون بأدائها. المنسَك هنا يُقصد به الشريعة أو العبادة، فلا تدع المشركين يجادلونك أو يشككونك في ما أوحى الله إليك من الشريعة والعبادة. ويُروى أن هذه الآية نزلت بسبب جدال الكفار في أمر الذبائح، حيث قالوا للمؤمنين: ” تأكلون ما ذبحتم ولا تأكلون ما ذبح الله من الميتة “، وهذا لعمري قمة عليا خرساء في الذكاء لاشتباه هذه الثلة ومعاودة تكرار نسخها عبر العصور في استغفال الناس واستخفافهم بالعقول لأن التحريم والتحليل من اختصاص الخالق الرازق العزيز الجبار المتكبر ظهرت علَّته أو لم تظهر، فنحن مأمورون بالاتباع لا بالابتداع إن كنا مؤمنين صادقين. قال تعالى بسورة الكهف: { رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} (10). فاللهم ألهمنا رشدنا، وأرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل وارزقنا اجتنابه، نكتفي بهذا القدر والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.