الجو صيفي والشمس حارقة. الطرقات مزدحمة بالسيارات والمقاهي مكتظة بالزبائن. كانوا جالسين حول طاولات في “التيراس” محتمين بشماسي ألوانها زاهية وأشكالها مختلفة كأنها في شاطئ. كنا نجلس حول واحدة قريبة من الطوار، فحدثت بيننا وبين المارة أُلفة غريبة. فعلى كثرتهم، كانوا يغدون ويروحون بدون انقطاع كالسيل الجاري. المدينة صغيرة وجميلة تتميز بطابعها السياحي نظرا لما تزخر به من معالم سياحية مهمة.
كانت فناجين القهوة السوداء وكؤوس الشاي المنعنع التي تغطي النحلات شفتيها، تزين طاولتنا. لقد ذهب بنا الحديث بعيدا حتى بلغنا موضوع الساعة. كانت الحوادث المؤلمة التي عرفتها المدينة تقض مضجع الساكنة: سرقات، نهب وحرائق هنا وهناك… باختصار كانت المدينة على وشك أن تعرف انفلاتا أمنيا خطيرا، إن لم تكن قد عرفته فعلا ! لقد تساءل أحدنا عما إذا كانوا قد عاقبوا المجرم الذي قام بسرقة العديد من المنازل، فأجاب آخر في استخفاف:
ـ إوا حييني واقتلني وقتاش اشدوه ويحكموا عليه.. المسألة خاصها الشهود.. وخاص.. وخاص.. !! أجاب آخر محتجا:
ـ وهل اللص يصطحب معه إلى مسرح الجريمة من يشهد عليه؟ ! وكذلك هل المجني عليه يكون على علم مسبق بأنه سيتعرض للاعتداء، فيقوم بإحضار من سيشهد لصالحه..؟ ! أمر غريب فعلا !
ضحكنا واستمر اللغو ساخنا، وكنت كلما أدير وجهي نحو الطاولة المجاورة من جهة اليسار تقع عيناي على شيخ وقور، يرتدي جلبابا صوفيا رغم الحرارة المفرطة لاعتقاده بأن ما يقي من البرد يمكنه أن يقي من الحر كذلك. كان بياض اللحية والعمامة يضفي جمالا خاصا على وجهه ويجعله في غاية الوسامة والاحترام. كنا نتحدث بحماس، بينما الشيخ كان يسترق السمع والابتسامة الساخرة لا تفارق شفتيه. كانت عيناه تحملان الكثير من الكلام، فانتابني الشك ثم أخفضت صوتي وهمست لأصدقائي كي لا يصل الكلام إلى مسمعه:
ـــ يبدو أن هذا العجوز يريد مشاركتنا الحديث !
أجابني أحد الأصدقاء متأففا:
ـــ أوف.. دعك منه الآن ولا تهتم لأمره، فما بقي لنا سوى محادثة العجائز.. !
ولكن الصمت كان الأقوى. لقد استغل موقف تعبنا ومللنا من كثرة الحديث، فجاء ليشاركنا مجلسنا. بقينا ننظر إلى بعضنا ثم شردنا وسرح كل واحد منا في دُنا أحلامه وآماله.. وإن هي إلا لحظات حتى استرجعنا وعينا على صوت الشيخ الذي فيه من القوة والوثوق ما يجعل المرء لايشك في صدق ما سيصدره من أخبار وأفكار؛ قال باسما وهو يهز رأسه ويسبل عينيه:
ـــ أيامنا أفضل من أيامكم.. !
وفي دهشة وتلقائية بالغتين طلع من أفواهنا نفس السؤال:
ــ ماذا تقول..؟ !
ـــ .. وقتُنا أفضل من وقتكم بكثير على الرغم من أنكم تتوفرون على كل شيء.. في أيامنا، كان الحاكم أميا أو بالكاد يتهجى الحروف؛ لم يكن حاصلا على شهادات عليا لا في القانون ولا في الشريعة الإسلامية حتى.. في تحرياته وإصدار أحكامه، كان يعتمد على ما حباه الله به من ذكاء وسرعة بديهة، فكان كل شيء على أحسن ما يرام.. كان كلما تعرض شخض ما للاعتداء في الصباح، يُحصل حقه في المساء أو في الغد على أبعد تقدير..
أجبناه في تحد:
ـــ لا.. لا.. يبدو هذا مستحيلا.. ! كيف ذلك؟
ـــ سأحكي لكم حكاية، وما عليكم إلا أن تمنحوني آذانكم وتستمعون إلي جيدا:… يتبع