أمام بناية ضخمة، يعكس لون طلائها الأبيض أشعة شمس الصباح التي تؤدي العيون كلما أمعنت فيها النظر؛ وقف رجل طاعن في السن، بجلبابه المهترئ، وظهره المنحني متكئا على عصا بيد لا تكف عن الارتعاش. مر بقربه صبي، فنادى عليه بصوت ضعيف ومبحوح بالكاد طلع من حنجرته:
ـ يا بني..! الله يرضي عليك..! أليست هذه هي دار الجماعة؟
أجاب الصبي وهو في طريقه إلى المدرسة، في استعجال:
ـ نعم ، إنها هي.
ـ من فضلك يا ولدي..! خذني إليها! أنا محتاج إلى بعض الأوراق الإدارية.
أخذ الصبي بيد العجوز، ومشى به على طريق ضيقة ومجهزة بالإسمنت المسلح وسط حديقة قاحلة، تكاد تخلو من كل أنواع الأغراس والخضرة. كان الصبي يقوده كأم تمرن رضيعها على المشي.ثم صعد به بعض الأدراج إلى أن أدركا الباب ، فتركه ورحل.
وقف العجوز في بهو فسيح، متفحصا أبواب المكاتب المصطفة الواحد لصق الآ خر دون معرفة أي باب سيطرق. بقي المسكين في حيرة من أمره مندهشا كأرنب بري طلع عليه ذئب بغتة، ولما أراد الهرب لينفذ بجلده تعثرت أرجله في الثلج، وبقي مغروسا في مكانه لا يتململ! أحذ المسكين يسأل بلهفة كل الغادين والآتين إلى أن دله أحدهم على أحد المكاتب، ولما دنا منه، وجد بابه مفتوحا؛ وبعفوية وسذاجة عجوز أمي وبريئ، دب إلى الداخل دون استئذان! لكن الشاب الذي كان يجلس وراء مكتبه منشغلا بإجراء مكالمة هاتفية، كان غير راض. نظر إليه من وراء نظارتيه، فبرزت عيناه، وتقطب وجهه وبدا على محياه الغضب. لقد طالت مكالمته الهاتفية فتشوش بال العجوز، وتمكن منه القلق واليأس، وتضاعف ارتعاشه. وفور انتهاء الشاب من إجراء المكالمة، رفع رأسه وتعالى صوته :
ـ من سمح لك بالدخول أيها العجوز الوقح؟ أين تظن نفسك؟ أفي مكتب أم في زريبة؟!
ثم ضغط الشاب بأصبعيه على أنفه، وقال في تقزز:
ـ أخ..! أخ..! لقد ملأت رائحتك الكريهة كل الحجرة…!
أراد العجوز الاعتذار وتبيان السبب الذي من أجله جاء:
ـ يا ولدي.. أريد..
قاطعه الموظف حاسما:
إخرس أيها الراعي المتعفن! اخرج..! اخرج وانتظر..!
خرج العجوز بعد أن مسح الموظف بكرامته الأرض! جرحت أحاسيسه كثيرا، ولم يستطع الوقوف طويلا، فأسند ظهره على الحائط، وأسلم جسمه المتعب للأرض، ثم عادت به الذاكرة إلى الوراء. لقد تذكر أيام الصحة والعز والشباب.تذكر تسلق الجبال، وقطع الفيافي والقفار في مطاردة المستعمر. أين ذهبت أيام الشهامة؟ والمقاومة والصمود؟ أين راحت أيام تسلق أعمدة الهاتف من أجل قطع وتخريب أسلاكها كي يتأزم المستعمر ويرتبك؟ <ألا ليت الشباب يعود يوما…>!
ومنذ أن دخل العجوز المكتب أول مرة ، وهو يشك في معرفته للموظف الشاب، وفي الأخير حسم أمره وتأكد منه. نعم إنه هو، لن يتيه عنه إنه ادريس ولد التهامي.. استرجع العجوز قوته وشبابه وعاود الدخول إلى المكتب ثم توجه إلى الشاب الوسيم في حزم وقال:
ـ اسمعني أسي ادريس ولد التهامي..! اسمعني جيدا..! أنت صغير ولا تعلم شيئا! أنت لاتعلم كم عانينا، وكم كابرنا لكي نوصلكم إلى مثل هذه المناصب! أنت لاتعلم بأن أرضية المدرسة التي درست بها ، والتي أقعدتك فوق هذا الكرسي ، كانت أرضي وفي ملكيتي، وأنا الذي وهبتها لكي تبنى فوقها المدرسة! أما جدرانها فبنيت بسواعدنا هاته، وبعرقنا الكريه الذي تتقزز منه اليوم! فيا للخسارة..! إنكم جاحدون.. وناكرون للجميل! ولكن اللهم راعي غنم متعفّن، ولا راعي قلم متدنّ!!!
مقال جميل يرسم بحق البيروقراطية المتعفنة التي ترعرع رجالها عبر كراسي نتنة وعلى محيط آخر شهامة قروي مسن يستذكر وينخر ماضيه ليخرج ذكرياته البيضاء وقوة شبابه وصلابة جاشه ضدا على الاحتلال الفرنسي والاستهتار الاداري المغربي
تحية أدبية للأديب نجيب، نعم لقد تفننت في رسم صورة دقيقة لإحدى الصور السلبية التي لا زالت تؤثث جل المرافق الإدارية. إن أسلوبك الرائع يشد القارئ مهما كان مستواه، وذلك يرجع في نظري إلى الحس الفني و المرهف النابع من التجربة الطويلة مع المعانات . تلك تبدو لي سمة أساسية لماتكتبه أخي نجيب الشيء الذي يجعل كتاباتك تغوص في واقع أبناء الشعب المغربي . تحية لك و دمت ضميرا حيا ينفض الغبار عن القيم الجنيلة و النبيلة في هذا المجتمع المليء بالأقلام و الأفواه المتدنية و أقف إجلالا و احتراما للرعاة المتعفنين "أعتدر عن الاقتباس أخي نجيب"
والله اكتر من رائع صورة جد طبيعية لما يقع في الدهاليز النتنة للادارة المغربية
والله مقال اكتر من رائع يعطي صورة جد طبيعية لما يقع في الدهاليز النثنة للادارة المغربية
هدا المقال يرسم الامر الواقع الدي تعيشه الادارة المغربية و للأسف لا زال المواطن المغربي يعاني من بعض المعاملات الغير الائقة من طرف الموظفين الدين لا يمثون للأدارة بصلة. و لا يمكننا أن نصنفهم كرعاة أقلام و لا حتى رعاة الاغنام. لأن راعي الغنم انسان شريف على الاقل يقوم بواجبه على أكمل وجه و خير مثال رسولنا الكريم عليه الصلاة و السلام.
شكرا أستاد نجيب.
لقد ظلت الكتابة لزمن ليس بالهين حكرا على الطبقة المسيطرة في المجتمع من هؤلاء الذين ولدوا وفي فمهم ملعقة من ذهب ، فلا غرو إذا رأينا أن أبرز المثقفين أو الذين يملكون سلطة المعرفة ينحدرون من أوساط حضرية حالفها الحظ في الالتحاق بالمدارس والقرب من الجامعات والمكتبات ،لذلك بقيت إنتاجاتهم الأدبية أو حتى الفكرية حبيسة هذه الأوساط ولم تنفتح على الأوساط الفقيرة والمهمشة إلا لماما ومن بينها العالم القروي الذي طاله التهميش حيث ارتبط في مخيال الحضري كمصدر لإنتاج المواد الفلاحية الطبيعية ومكانا للهواء النقي والكرم وصفات قدحية كالسداجة و"العروبي "وللأسف هذه الأفكار "المتبرجزة"المتعفنة روجت حتى من داخل الكتب المدرسية من ساهم في إعادة إنتاج هذه الأفكار داخل المجتمع .بالمقابل لا نجد سوى دراسات أو كتابات قليلة سجلت معاناة الإنسان القروي مع المخزن من خلال تعسف جباة الضرائب في القديم إلى رجال السلطة والإدارة والمنتخبين الذين جعلوا هذا الوسط مصدرا للاسترزاق واستغلال طيبوبة وجهل البدوي ونعته بأبشع النعوت المحطة للكرامة الإنسانية ،وهذا ليس غريبا في إدارة ورثت عن النظام الكولينياني الذي اعتمد على الوجهاء(…)
الموالين للاستعمار وعن تصنيف المغرب إلى نافع وآخر غير نافع ومغرب المخزن ومغرب السيبة والعالم القروي من ضمن هذا الصنف الأخير الذي ثار دائما ضد الظلم وقاوم المستعمر لذلك وجب تطويعه وتهميشه ومعاقبته وتخويفه وتجهيله .وجراء هذه النظرة المتغطرسة والدونية للعالم القروي ،لم يحظ بنصيبه من دراسات سوسيولوجية تعري هذا الواقع وتنصفه وتعيد له بريقه كمجال له خصوصيته ومادة دسمة للإنتاجات الأدبية والفنية .والنص الذي قدمه سي "نجيب تريد" شهادة حية وواقعية بدون "اطلع وهبط وسير واجي" للعطب الذي تعيشه الإدارة كمرفق عمومي وجد أصلا لخدمة المواطن وليس المواطن في خدمة هذه المؤسسة ،والتعامل السلبي والفوقي للموظفين مع شريحة كبيرة من سكان البوادي.وكذلك "شهادة حياة جماعية" لنا نحن "العروبيا" أننا ما زلنا على قيد الحياة وبمقدورنا إعادة الاعتباروالدفاع عن هذا الوسط الذي أمعنتم في تهميشه وتحقيره .ونصا أدبيا بامتياز لم تغب فيه الصنعة الأدبية كما عهدت دائما في إنتاجات هذا الكاتب المبدع التي أتابعها باستمرار
إن هذا النص السردي القصير – وكما هي عادة الفنان نجيب اتريد دائما – يرتمي في أحضان الواقعية الاجتماعية إذ أنه يلامس الواقع اليومي للإنسان المغربي ويعريه ويفضح ما كان مسكوتا عنه حتى الأمس القريب وخاصة خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات بحيث كان الاقتراب من مثل هذه المواضيع يندرج ضمن الطبوهات لدى الأنظمة المستبدة التي ينخرها الفساد بشتى أشكاله. فالأقصوصة صرخة في وجه البيروقراطية والفساد الإداري الذي يعشش بإدارتنا منذ الاستقلال إلى يومنا هذا كما أنها صرخة احتجاج في وجه التهميش الذي يطال الفئات الاجتماعية التي عانت الأمرين خلال حقبة الاستعمار في مجابهة قوى الظلم والطغيان والتي لم يتم إنصافها قط مع بزوغ فجر الحرية والاستقلال إذ مازالت تجتر الخيبة والمعاناة مع جيل من سماته التنكر لأولئك البناة. لقد عبر الكاتب نجيب عن كل هذه القضايا بلغة فنية شاعرية راقية وأسلوب زاوج بين بلاغتي الإقناع والإمتاع الشيء الذي يجعل النص يمارس غوايته على المتلقي ويأسره إليه بأكثر من سبب ويجعل أيضا لسان حال هذا المتلقي يلهج وباستمرار هل من مزيد…إلخ. فتحية تقدير للمبدع الواعد نجيب من ابن الحارة فالدار القديمة.