سيطر الوجوم على سحنات الوجوه.. وقطبت الجباه، وانتشر العبوس بين الملامح، وعشش الحزن في القلوب المنكسرة.. وانطلقت آهات خافتة تعبر عن الألم المكتوم، والبلاء المقدر. وانطلقت بجوار الهياكل المحترقة همسات وهمهمات تستفظع الجرم، وتعلن الغضب، وتلعن المجرم.. ودارت معارك حامية بين الحزن والفرح، والسخط والرضى، والضجر والتسليم.. وانتشرت ألسنة اللهب الحارق في القلوب والنفوس، عوض هياكل العربات والبيوت! ولم تفلح الأمطار الغزيرة، في محو آثار المشاعر الحزينة. واستمر المشهد الأليم، يدمي الجرح القديم، ويذكي مشاعر الانتقام، ويعكر صفو القلوب البريئة. وظلت الآثار المنتشرة هنا وهناك بالأحياء، تشحد الذاكرة، وتحثها على التذكر وعدم النسيان؛ والتأهب الدائم، ضد الخطر الداهم، والاستعداد لما هو قادم. فلم تعد وظيفة الحارس الليلي حكرا على صاحبها، ومقصورة عليه؛ بل أصبحت الشغل الشاغل، والعمل الدؤوب لعموم الأهالي بعد الحادث المشؤوم! فقد تضاعفت الأقفال، وانتشرت الهراوات، والقضبان المعدنية هنا وهناك خلف الأبواب الموصدة بإحكام. واشرأبت الأعناق من النوافذ مع حلول الظلام، وأرقت العيون، وانتفخت الأجفان، وانتشرت الآلام.. بالرؤوس والأقدام، المتحفزة طوال الوقت. واستمر السهر المضني بلا جديد في ليل الشتاء الطويل.. فقد فُقد الأمان، وغاب الاطمئنان، واستمر الرعب خلف الجدران، ولأول مرة يفشل النسيان، في محو آثار الفعل الشنيع، يوم الحادث المريع.
ومع إطلالة كل فجر جديد، تتجدد المأساة، وتتكرس الهموم، وسط القلوب المكلومة، والأجساد المنهوكة. وتضيع ساعات السهر الطويل المضني بلا طائل.. فما كان قد كان. وما نفع حذر من قدر.. فقد وقع المحذور، وقدر المقدور. وبقي الحذر، وانتشر الرعب من المجهول، القادم مع كل غروب. واختفى السلم الاجتماعي، وحل محله الترقب والتوجس، والتخوف.. فانتظار الموت أقسى من الموت نفسه! وترقب المصائب أفظع من عيشها، وأشد وقعا منه. والمهدد بالموت يعيش الموت ألف مرة، في انتظار ساعة الخلاص، وقدوم الموت الرحيم. والفتنة أشد من القتل… فلا قرت أعين من أيقظها، ولا اكتحلت بنوم أو نعمت بهدوء؛ ولا متع الله أصحابها حتى بالموت الرحيم، وجعلهم عبرة لمن يعتبر.