القول الفصل في حُرمة أو حِلِّيَّة أكل الحلزون ( الْبَبُّوشْ أو أَغْلاَلْ أو الْبَازُوزِي بحسب اللهجات الرائجة عندنا في المغرب)

الْبقلم الفقيه الشيخ المقرئ عبد اللطيف بوعلام الصفريوي.ابتداء، فإن الحلزون المُزْمَع التطرق إليه هو على ضربين: بحري، وبرِّي. فأما البحريُّ، فلا خلاف وإشكال في أكله ولو لم يُذَكَّى لدخوله جوازا وإباحة في عموم الآية لدى قوله تعالى بسورة المائدة: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ، وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا، وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)﴾، والمراد أن الله قد أَحَلَّ للمسلمين صيد الحيوانات المائية، وحَرَّمَ عليهم صيد البر ما داموا محرمين بحج أو عمرة.ولقد سُئل نبينا صلى الله عليه وسلم عن التوضؤ بماء البحر، فقال للسائل مفصحا ومبينا: ” هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مِيتَتُهُ “، وهو المستهدف بقوله عز من قائل: “وطعامه” أي: الميت. إنما الخلاف جارٍ في الحلزون البري على رأيين: + الأول مَنْعُ أكْلِه، وهو قول الجمهرة من الأئمة والعلماء المعتبرين من أمثال أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وابن حزم وغيرهم مِنْ أَنَّ أكلَه حرام؛ حيث عَدُّوه في زمرة صنف الحشرات قياسا له بالنمل والنحل والذباب ونحو ذلك..أضيفوا إلى ذلك من أنه لا يُذَكَّى أي: يُذبح، والذكاة تكون في الحَلْق أو الصدر كما هو معلوم، والحلزون لا يمكن تذكيته لِلَزاجته وخُلُوِّ الدم منه، فهو إذاً في حكم الميتة المحرمة بالنص القرآني القطعي المعهود، وأجتزئ منه الشاهد: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ..). وقياسه على الجراد لا يصح البتة لأنه قياس على ما خالف القياس، ذلك لأن الجراد مستثنًى من عموم النص لقوله صلى الله عليه وسلم باختلاف بسيط في اللفظ مُضمَّنُه:” أُحِلَّ لَكُمْ دَمَانِ وَمَيْتَتَانِ، فَأَمَّا الدَّمَانِ الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ، وَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ: السَّمَكُ وَالْجَرَادُ “. ( المَيْتتان أو المِيتَتان لغتان فصيحتان).ولا يقاس عليه بالإلحاق الكبد والطحال باعتباره أنه لا دم له. + أما القول الثاني، فهو قول الإمام مالك رضي الله عنه وتُبَّاعُ مذهبه من أنَّ أكْلَه حلال شريطة تذكيته بالوخز أو السَّلْق أو الشَّيِّ مع تسمية الله عليه قياسا له بحكم الجراد لأن الأصل هو الحِلُّ والإباحة حتى يرد دليل المنع، ولم يأت نص من الشرع في النهي عن أكله أو عن قتله أو أمْرٍ بقتله. ثم إنه في حد ذاته ليس بِمُسْتَخْبَثٍ، ولا يأكل الجيفة إلا صنفا غليظا منه مائلا إلى السواد يُقال له ( أَكْبَازْ ) الذي يرعى أغلبه على العذِرة..والسؤال الذي طُرِحَ على الإمام مالك كان على هذا النحو: ” سئل عن شيء يكون في المغرب يُقال له الحلزون يكون في الصحارى يتعلق بالشجر أَيُأْكَلُ؟ فكان جوابه الذي تقدم ذكره مضمنا في قول مريديه قياسا له على الجراد، وهذا هو نصه: ” أراه مثل الجراد، مَا أُخِذَ مِنْهُ حَيّاً فَسُلِقَ أَوْ شُوِيَ لاَ أَرَى بِهِ بَأْساً، وَمَا وُجِدَ مِنْهُ مَيِّتاً فَلاَ يُؤْكَلُ ” المدونة: (542-1).ولقد نبه بعضهم إلى أنَّ تذكيته تكون بغلي الماء في درجة حرارة شديدة جدا، ثم وضعه فيه ليموت لتوِّه.. لأن وضعه في الماء البارد أو قليل الغليان ثم إيقاد النار عليه يُعَدُّ تعذيبا له وعدم الإحسان في تذكيته لأنه يصدر صوتا أنينيا للإشفاق عليه، وذلك الموت البطيء يعتبر بصدق خرقا لوصية رسول الله ﷺ المخبر عن ربه: ” إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإحْسانَ علَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وإذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَةَ، ولْيُحِدَّ أحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، ولْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ”.وعلى الرأي بالإباحة والسماح بأكله درأ علماء المالكية إلى حدود هذه الساعة، وسنورد ثلاثة منهم مشتهرين:قال ابن الحاجب رحمه الله: ” وأما الحلزون فكالجراد والطير كله مباح”. جامع الأمهات. (125_1). وكان أبو الوليد الباجي المالكي- رحمه الله- يقول: ” إذا ثبت ذلك، فحكم الحلزون حُكم الجراد، قال مالك ذكاته بالسلق، أو يغرز بالشوك والإبر حتى يموت من ذلك، ويسمَّى الله تعالى عند ذلك، كما يُسمى عند قطف رؤوس الجراد “. المنتقى (3-11). وقال ابن حبيب موضحا: ” وأجاز مالك أكل الحلزون، وقال يُذكى بما يذكى به الجراد من فعل تموت به، ولا يؤكل ما مات منه بغير فعل، وتسمي الله عند فعلك ذلك به مِنْ سلق أو بنَغْزٍ بالإبر أو الشوك أو غير ذلك “. انظر النوادر والزيادات لابن أبي زيد القيرواني..(357_4) وعلق البعض على طريقة تذكيته في الماء وعدُّوا ذلك الفِعل مندرجا في حكم المنخنقة حينئذ..والكلام في هذا الموضوع يطول؛ والأحوط عندي هو اتباع الجمهور بدليل أن مالكا العالم المدني الذي كانت تُضرب إليه أكباد الإبل طلبا للفتوى والعلم اشتهارا: ” ألاَ لاَ يُفْتى في المدينة ومالك فيها ” قد أصدر رضي الله عنه حُكما على شيء لم يكن موجودا في بِيئَته لِيَخْبُرَ أنواعه التي يرعى معظمها في النجاسات والأزبال، والأحوط لنا التعفف عن أكله لأنه لولا التوابل والأعشاب المتنوعة لَمَا استساغ أحد احتساءه بمرقه تسابقا في شربه تسخينا للذات من البرد والسُّعال..ثم إنه يستغرق وقتا طويلا في طهيه بإزالة تلك الرغوة اللُّعابية المقززة من القِدر حتى لا تفيض، فتعمل على إطفاء النار التي تحته.والحديث في هذا الأمر يحتاج إلى أضابير ومراجعات تصحيحية لضبط المسار وتقويم المسير في ما يتعلق بهذا الطعام الشهير، إذ لا تخلو مدينة من الكراريس المنبرية لبيعه من خمسة دارهم إلى عشرة في زليفات معدودة الحبات. أو زيد الما زيد الدقيق..والحق أنه من ساعة ما أجريت البحث عن حليته وحرمته ردحا من الزمان اتبعت الجمهور القائل بالتحريم من باب التحرز مفعِّلا قاعدة شعبية مشتهرة عندنا مفادها:” الذِّيبْ حْلاَلْ الذيب حْرَامْ التّرْكْ احْسَنْ ” غير أنني لا ألزِم الآخرين باتباعي في هذه المسألة حتى لا أُلْمَزَ من قِبل الفضوليين في قطع الرزق على المنشغلين بهذه التجارة المدرة للربح بموازاة حَمَّصْ كَامُونْ، وعدم إلزام الناس بترجيحي لرأي المنع نابع قناعة من باب التوسعة على الأمة دون التعصب للمذهبية لأن القضية تطوعية اختيارية بين الأكل وعدمه، والأسلم بالنسبة لي صرف المَعِدة عن احتساء ما اختُلِف فيه بين الإمام مالك والأئمة الثلاث والجمهور دون التمذهب الموجب للتعصب كأنه وحي يوحى، ومخالفته جُرم أقوى تستحق نار اللظى! وأعجبني قول بديع بن معين الإمام النحرير الشافعي: ” إذا صح الحديث فهو مذهبي ” ليؤكد أن التمذهب ليس حصرًا على اتباع قول دون دليل، بل هو منهجٌ وتصوُّر لفهم النصوص تدرجا في العلم. فالأئمة الأربعة نبذوا التقليد الأعمى، ودَعَوْا أتباعهم للتمسك بالكتاب والسنة. « كُلٌّ يؤخَذ من قولِه ويُرَد إلَّا صاحب هذا القبر ﷺ» صرح بها الإمام مالك. ومن أقواله الخالدة تقعيدا للمذهب:« إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه»، وسأورد في هذا الصدد قصة توضح رجوع الإمام مالك إلى النص، وعدم علمه السابق به، فقد قال ابن وهب: سمعت مالكا سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؟ فأجاب: ” لَيْسَ عَلَى ذَلِكَ النَّاسُ “، فتركته حتى خف الناس، فقلت له: عندنا في ذلك سنة. فقال: وما هـي؟ قلت: (حدثنا الليث بن سعد وابن لُهَيْعَةَ وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن المستورد بن شداد القرشي قال: « رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُدَلِّكُ بخنصره ما بين أصابع رجليه»، فقال: إن هـذا حديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة. ثم سمعته بعد ذلك يسأل، فيأمر بتخليل الأصابع.« لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه». قاله الإمام أبو حنيفة.وأما الإمام أحمد، فمن شدة تمسكه بالسنة لُقِّب بإمام أهل السنة والجماعة! أرأيتم أيها الإخوة والأخوات الأكارم كيف أن جميعهم على أولوية التمسك بالسنة دون التعصب للتمذهب المقعد لفهم النصوص الشرعية حسب القواعد المنصوص عليها في كل مذهب، والتي تساعد على التدرج العلمي إلى أن يصل إلى درجة التمكُّن والاجتهاد. هذا ما تيسر قوله بعد صلاة الفجر؛ ولكل وجهته في الاتباع للخروج من هذا التباين في الرأي: الإمام مالك يبيح أكل الحلزون، والجمهور يحرمه، فخذوا أنتم بالرأي الذي يريحكم في ظِلّ ما قدمته لكم من تفاصيل دالة على هذه المسألة على قلة ما يُؤْكَلُ. الخير موجود في الاستعاضة عن الحلزون.. وفقكم الله في مسعاكم وسدد خطاكم، وهدانا وإياكم طريق الصواب. آمين آمين يا رب العالمين.