الضائعة (ج3)

وهي في الطريق إلى المدرسة، جالت في رأسها أفكار عديدة كانت أقواها فكرة الاستسلام برفع الراية البيضاء. أرادت أن تخلف كل شيء وراء ظهرها وتعود من حيث أتت. أرادت أن تعود إلى الحضن الدافئ والرطب رغم افتقاره لكل شيء، الحضن الذي يفتقر لجل متطلبات العيش، والذي يغتني بالحب والحنان والدفئ الأسري. أرادت أن تتخلص من كل العذابات والمعاناة. فما استطاعت لأنها لم ولن تنس أبدا أنها الحلم في تغيير وإنقاذ ما يمكن إنقاذه؛ ثم أضف إلى ذلك إحساسها الفظيع بأنها أسيرة أطفال تحبهم ويحبونها. إنهم عزاؤها الوحيد في ذلك العالم الجامد والبارد والممل. لقد ألفتهم وألفوها وأصبحت تقرأ في أعينهم الأمان رغم ما تحس به من خوف، لذلك فهي لن تقدر على فراقهم ولن تتركهم وترحل.
وذات مرة، وهي في البيت منشغلة بتهييء طعام العشاء، فاضت شجيتها وتدفقت خواطرها وباتت تغني أغنيتها المفضلة:
أيلي هايلي يالي راك وحداني
أيلي هايلي أنا بحالك عزلوني
ماحاولو يفهموني، وما كالو يعذروني…
وقبل إكمال اللحن، أحست برأسها يدور وبلسانها يتصلب، وبجهد أمسكت نفسها ونظرت إلى الطاجين فوق النار، فإذا بالنار تنطفئ من تلقاء نفسها والطاجين يرقص على نغمات لا تسمع.. بقي يرقص ويرقص رغم انقطاعها عن الغناء. تنمل رأسها وصفقت أسنانها داخل فمها من شدة الخوف، فخرجت من المطبخ مسرعة إلى وسط الدار، لكنها ستصدم لاصطدامها مباشرة بالطفل معزوز وهو جالس القرفصاء أمامها في الركن المقابل للمطبخ، كان يبكي ويتوسل إليها بأن لا تتركه وترحل. ومعزوز هو أذكى وأشطر تلميذ عندها في الفصل، وحبها له لا يعرف الحدود. ولما فتحت فمها لتكلمه، تطايرت الكلمات في الهواء دون وجود آذان تلتقطها لأن الطفل معزوز كان قد اختفى في لمح البصر كما تختفي البرق.
ـ يا إلهي.. ماذا يحصل لي؟..
تساءلت صفاء في دهشة ثم استتلت:
ـ كيف للطفل أن يختفي بهذه السرعة؟ لقد كان هناك.. أمامي يتوسل إلي.. إني رأيته بعيني هاتين اللتان ستأكلهما الديدان.. غير معقول..
كل ذلك زاد من دهشتها ورعبها، فهرولت نحو غرفة النوم. دفعت الباب بقوة ثم ارتمت إلى الداخل وقصدت السرير محاولة الاحتماء بالفراش. وما أن رفعت الغطاء لتندس تحته حتى طلعت من حلقها صرخة مدوية، فتسمرت في مكانها وهي تنظر إلى السرير في دهشة لامتناهية، فإذا بالطفل معزوز ممدد وهو مغمض العينين غاطا في نوم عميق. غادرت الغرفة، بل المنزل كله جريا وهي تصرخ. استفاق جل الجيران وبدأوا يخرجون من ديارهم مسرعين لاستطلاع الأمر. اجتمعوا حولها، فتقدم العم علي، وهو صاحب البيت الذي تقطنه صفاء، مستفسرا ومهدئا:
ـ اهدئي يا بنيتي وأخبريني: هل أصابك مكروه؟ هل بالداخل حريق أوشيء خطير لا قدر الله؟
حاولت أن تجيبه، لكنها وجدت صعوبة كبيرة، فبالكاد طلعت من جوفها بعض الحروف بشكل متقطع:
ـ هنا.. هناك.. معزوز..
كانت تنطق وهي تشير بسبابتها نحو الداخل، وبالتحديد نحو غرفة النوم، حيث يوجد السرير. دخل العم علي ومعه بعض الرجال وفتشوا البيت ركنا ركنا، لكنهم لم يعثروا على شيء أو أحد. قال العم علي في هدوء:
ـ انظري يا بنيتي.. فلا أحد هناك. استعيدي بالله وعودي إلى بيتك.. إن كل هذا لمن فعل الشيطان لعنة الله عليه.
وقالت إحدى النساء وهي تضرب بيدها على فخذيها:
ـ أقطع يدي من هنا إن لم يكونوا أصحاب المكان..
قالت ذلك وهي تشير إلى المرفق ثم استتلت تبصق بشكل غريب:
ـ تف.. تف.. احنا فعار الله والنبي..
وقبل أن تكمل عملية البصق تلك، نهرها العم علي في غضب:
ـ كفي عن هذه الترهات يا امرأة.. فإن لم تستطيعي قول كلمة طيبة، فاصمتي وادخلي بيتك على الأقل. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. امرأة مثل البومة، لا تنطق إلا بالخراب. ثم صمت العم علي برهة، والتفت إلى زوجته الحاجة يطو فأمرها:
ـ يا حاجة.. خذي الفتاة وأدخليها البيت ولا تعودي إلا في الصباح. أستطيع أن أعتمد عليك في العناية بها.. تصبحين على خير يا بنيتي.
لقد قضت صفاء ليلة هادئة في حضن الحاجة يطو حتى تسلل الدفء بمعية أشعة الشمس إلى السرير. كانت تعبة وساقاها لا تقويان على حملها. نصحتها الحاجة بأن لا تذهب إلى الشغل وتبقى بالبيت للمزيد من الراحة، لكن صفاء أبت إلا أن تكون بين تلاميذها. وبينما هي في الفصل جالسة على الكرسي تنشد الراحة، نادت على معزوز، فتقدم نحوها متعثرا من خوفه وهو يقول موضحا:
ـ والله العظيم ما فعلت شيئا يغضبك يا أستاذة..
قاطعته قائلة:
ـ لا.. لا تخف يا حبيبي.. أردت فقط أن أسألك.
فزادت في حثه على الاقتراب منها ثم همست في أذنه حتى لا يسمعه الآخرون:
ـ ألم تزرني في بيتي هذه الليلة؟
ـ لا يا أستاذة.. لقد نمت الليل كله في بيتنا.
استغربت وتمتمت:
ـ يارب.. ماذا يحصل لي؟ لقد رأيته في بيتي..
ـ طيب.. طيب.. عد إلى مكانك… يتبع.