إذا أرادت صفاء أن تحصل على بعض المستلزمات الضرورية من خضار وخبز… وجب عليها أن تقطع عددا من الكيلومترات لكي تصل إلى المركز حيث الأسواق، الشيء الذي سئمته وأثار اشمئزازها بقوة. لم تعد قادرة علىطلب مساعدة الجيران أو بعض الأشخاص لإحضار كل هذه المستلزمات باستمرار.
كل شيء مختلف، لكن صفاء قررت المقاومة من أجل لقمة العيش ومن أجل أولئك الأطفال البريئين الذين لديهم الحق وكل الحق في التعلم.فتوالت الأيام والشهور والسنين وهي على حالها؛عملت المستحيل كي تنتقل إلى منطقة أخرى تكون فيها ظروف العيش أفضل، لكنها لم تستطع، فكانت النتيجة أن بدأت أعصابها في الانهيار وعزائمها في التراجع.
وفي ليلة باردة ومظلمة، وبعد يوم مشحون بالتوتر الناتج عن العمل وعن شغب الأطفال، أمست صفاء إلى وحدتها كعادتها، وإذ وضعت رأسها على الوسادة طلبا للراحة والنوم، سمعت بعض الأصوات في الخارج وراء الحائط مباشرة. في البدء ظنت أنها أصوات خطوات كلب أو أي حيوان كان مارا بالصدفة، لكن الحقيقة كانت عكس ذلك، بحيث انقلبت أصوات الخطوات إلى أصوات طرقات على النافذة. وعندئذ طار النوم من عينيها، ودب الخوف إلى صدرها، وتأكدت بأن الليلة لن تمر على خير. بقيت متجمدة في فراشها لا تتحرك ولا تصدر أي صوت، خمد الصوت لبرهة في الخارج، ثم عاود الدق من جديد. وبعد ذلك توالت أصوات طرق النافذة مرات ومرات، ولما لم يستطع صاحبها الحصول على أية استجابة، بدأ يناديها بصوت خافت مليء بالتحفظ:
ـ صفاء..صفاء..
وعند سماع اسمها، تضاعف خوفها ثم ردت بصوت مرعوب ومتقطع:
ـ ش..ش..شكون؟
ـ حلي الباب، حلي بالزربة وبلا مانديرو الشوهة.
ـ واش أنت أحمق..؟ قلي بعدا شكون؟
ـ أنا حبيبك.. جيت ندوز معاك لويلة زوينة.
ـ الله يرحم والديك أخويا.. سير بحالك وخليني فحالي.
ـ شوفي.. بلا ماتصعبي عليا الأمور.. غير حلي، راني ماغاديش نمشي حتى ندوزوا لويلة من ألف ليلة وليلة.
ـ صافي..صافي.. تسنى شوية وغادية نجي نفتح ليك الباب.
ابتعدت صفاء عن النافذة، وظلت تتحرك في جميع أرجاء المنزل بدون اتجاه مثل كرة تتقاذفها أرجل أطفال سعداء فرحين باللعب داخل فضاء محدود. كانت مفزوعة، أفكارها مشتتة، وقد كلحت ملامحها وتصبب جبينها عرقا. ماذا ستفعل؟ كيف ستتصرف؟ الظرف حرج، والوقت لا يرحم، أما الأحمق الموجود بالخارج، فلا أحد يدرك حقيقة نواياه ولا إلى أي مدى يمكنه أن يصل. ظلت تفكر وتفكر إلى أن تعب عقلها وجف حلقها، وفي الأخير اهتدت إلى فكرة: نعم، والله فكرة.. إنها هي.. فهي الحل الأنجح والوحيد في ظرف كهذا. توجهت مسرعة نحو قنينة الغاز، أشعلت النار ثم سكبت بعض الزيت في إحدى الأواني ووضعتها فوق النار. أغلت الزيت حتى بلغت درجة حرارة مرتفعة جدا، ثم أخذت الآنية واقتربت من النافذة وهي تقول بصوت لا يخلو من تصنع وتمثيل:
ـ مهلا.. مهلا.. انتظر قليلا، أريد أن أكلمك.
اغتر العاشق الولهان وذهبت به الظنون إلى أن صفاء قد رق قلبها وانصاعت لرغبته، وبدون شك أنها ستدخله بيتها وتستقبله بالأحضان ليقضي ليلة ولا في الأحلام.. ليلة أجمل من ليالي الأنس في فيينا على حد قول المطربة الراحلة اسمهان. بدأ يقترب من النافذة أكثر فأكثر وهو يمد أذنه لتلتقط بعض الكلمات التي ستزرع السرور في قلبه والروح في جسده. فتحت صفاء النافذة في ارتباك ثم ألقت الزيت على وجهه بكل قوتها، فعادت وأغلقت الباب في حينها. وبعد هنيهة سمع الجميع صراخه كعواء ذئب وقعت أرجله في المصيدة أثناء بحثه عن فريسته.
اقتعدت صفاء كرسيا في الجهة المقابلة للنافذة وقد خفق قلبها، وارتعش جسمها وشل تفكيرها. بقي طنين الصراخ برأسها رغم انقطاعه كدوي انفجار فظيع. لم تكن تدري ماذا حل بذلك الصياد الغبي. وبعد ان تعبت أكثر، نهضت من على الكرسي وتوجهت نحو السرير ثم تمددت فوقه عل عقلها يعرف طعم الراحة وعينيها طعم النوم. لكنها قضت الليل بطوله دون أن تطفئ النور وهي تنظر إلى السقف وتعد أعمدته بعينين محمرتين حتى الصباح. نهضت من فوق السرير ومشت متباطئة بخطوات ثقيلة ووجه شاحب وعينين منتفختين، فوقفت أمام المرآة، لكن رؤية وجهها، لم يزد إلا في خفقان قلبها ومضاعفة دهشتها، إذ عوض أن ترى وجهها رأت وجه رجل مريب. كان يبتسم لها ابتسامة مخيفة، ويرفع حاجبيه نحو الأعلى وحدقتا عينيه متسعتين، وبين الفينة والأخرى، يخرج لسانه ويأخذ في تحريكه بخفة كأفعى تستعد للدغ أول ضحية تمر بقربها. لم تستطع أن تتملك نفسها، فقفزت من مكانها وهي تصرخ بأعلى صوتها.. اجتمع الجيران، ولما أرادوا معرفة سبب الصراخ، لم يعثروا على شيء.. كل ما استطاعوا فعله، هو أن هدأوا من روعها وشجعوها على الذهاب إلى المدرسة لأجل مباشرة شغلها ونسيان كل ما حصل لها.