الدكتور محمد غازيوي يكتب : "بيداغوجية التعلم عن بعـد: السياق والرهانات"

التعلم عن بعد من الطرائق البيداغوجية الحديثة، انتهجتها العديد من المؤسسات الجامعية والمعاهد الخاصة لفائدة طلبتها بهدف استدراك ما فاتهم من مواد معرفية أو تطبيقية، أو بغية تعزيز معارفهم وتقويمها من خلال الرجوع الى تلك الحصص التي لم يتمكنوا من حضورها لسبب من الأسباب، مما يعني أن هاته الطريقة البيداغوجية كانت موجودة من قبل وليس وليدة اللحظة الراهنة، لكن الوتيرة المتسارعة لتطور الوسائط التكنولوجية وما يوازيها من تقدم على مستوى البرامج المعلوماتية ربما كان سببا وجيها في التعجيل بانتشار هاته الطريقة وتناميها، خاصة مع ما تعرفه حياتنا المعاصرة من اختراق للتكنولوجيات المعلوماتية. ومن المعلوم بالضرورة أن كل الطرق البيداغوجية لها ايجابياتها مثلما لها نواقصها، طبعا مع تفاوت فيما بينها. وعلى هذا المرتكز ارتأينا أن نولي وجهنا لمقاربة بعض المحاور المتعلقة ببيداغوجية التعلم عن بعد، وذلك بالوقوف على سياق وملابسات تطبيقها، وخصائصها، وعوامل نجاحها أو إخفاقها، ثم رهانات اعتمادها من طرف الوزارة الوصية أو المدرسين.
إن المتتبع للشأن التربوي والتعليمي لا شك سيدرك التوجه الملفت للنظر من قبل الدول العربية والغربية على السواء إلى انتهاج هاته الطريقة في هذا الظرف العالمي بسبب انتشار جائحة كورونا التي فرضت التباعد الاجتماعي الواقعي، وإحداث مسافات بين الأشخاص خلال تواصلاتهم، وبالتالي استحالة التعلم الحضوري، الأمر الذي يطرح أكثر من سؤال حول جدوى اختيار هاته الطريقة البيداغوجية، والأسباب الكامنة وراء ذلك.
وفي اعتقادنا أنه لم يكن اختيار بيداغوجية التعلم عن بعد من قبل الدول طوعا، بل كرها فرضته الظرفية الراهنة المتسمة بانتشار هاته الجائحة، حيث اضطرت الدول بسببها إلى إغلاق المؤسسات التعليمية والجامعية، وفرض حجر منزلي صحي، فما كان للوزارات الوصية على قطاع التعليم داخل الدول إلا أن تتجند من أجل إيجاد صيغ بديلة للتعلم عن قرب. وعلى هذا المرتكز وُلدت بيداغوجية التعلم عن بعد كحل لا محيد عنه من أجل تدبير مرحلة مستعصية، ومن أجل التخفيف مما يمكن أن يؤثر سلبا على التحصيل الدراسي للمتعلمين والمتعلمات، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من زمن التعلمات.
لقد استنفرت الوزارات الوصية على التعليم كل أطرها الإدارية والتربوية والتقنية وسعت جاهدة لتوفير كل الوسائل اللوجيستيكية والدعاماتية والتكنولوجية لإنجاح هذه البيداغوجية التي سيتم ولادتها قيصريا. وبذلك تم استدعاء العديد من المدرسين والمدرسات لتصوير موارد رقمية خاصة بموادهم الدراسية، وتم تطوير مواقع بعض وزارات التعليم لتستجيب لذلك، كما تم التنسيق مع محطات تيلفزيونية من أجل تقديم بعض الدروس المصورة، ناهيك عن إحداث المدرسين والمدرسات للعديد من المواقع والمدونات والمجموعات التواصلية في مواقع التواصل المتنوعة بهدف تيسير الولوج إلى المواد المدرسة أو التفاعل الدراسي عن بعد.
والواقع أن ما يمكن تأكيده هو الانخراط الجدي والواسع لكل الفاعلين التربويين في أجرأة بيداغوجية التعلم عن بعد في وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي المغربية، على اعتبار أنها بيداغوجية بمثابة ورش إصلاحي يُقصد إنجاحه، فكان أن كُتب له نسبة من النجاح لأسباب يمكن إجمالها في:
– الرغبة الصادقة والملحة لوزارة التربية والتعليم في مواصلة برامجها الإصلاحية التي تروم دمج تكنولوجيا المعلومات والاتصال، وتوفير موارد رقمية لمساعدة التلاميذ على التحصيل الدراسي، أو تخطي التعثرات عن طريق برامج الدعم المقدمة لهم رقميا. ونحن لا نعدم الدليل على هذا التوجه، فيكفينا الرجوع إلى الرؤية الاستراتيجية 2015-2030، والقانون الإطار رقم 17-51 الصادر في غشت2019 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، وكلها برامج وقوانين ترمي إلى الارتقاء بالتعلمات وتحقيق الجودة وتكافؤ الفرص.
– الانتشار الواسع للوسائل التكنولوجية، والانخراط الواسع للمدرسين والمتعلمين في توظيفها من خلال تتبع المواقع التعليمية والتواصلية واستثمار محتوياتها في بناء التعلمات وتجويدها. ونحن لا ننكر أن بيداغوجية التعلم عن بعد قد فتحت المجال للمدرسين للانخراط في تكوينات رقمية واستكشاف برامج معلوماتية ساهمت في بلورة دروسهم أثناء التصوير، ودفعت البعض منهم إلى الوقوف على إيجابياتها، ولعل من أبرزها ربح الجهد والوقت وتجويد الممارسة الصفية من خلال توظيف الوسائط الرقمية.
– وإن كان لبيداغوجية التعلم عن بعد أثارا إيجابية على المدرسين والمدرسات فإن أثارها كان أكبر بكثير على المتعلمين والمتعلمات، فقد كان التواصل مع مدرسيهم والتفاعل معهم فرصة لتزجية الوقت الذي يخيم عليه البطء في ظل حجر منزلي يطول معه الزمن النفسي، كما كان فرصة للبعض من أجل استكشاف التعلم عن بعد ربما لأنه كان مخفقا في التعلم عن قرب، وبالتالي استكشاف ما يروج من معارف ومحاولة اقتناصها أو على الأقل الاستئناس بها. فضلا عن ذلك فإنه مما حفز المتعلمين والمتعلمات على الانخراط في بيداغوجية التعلم عن بعد هو قصر المدة الزمنية المخصصة للدروس مما يدعونا جميعا للتفكير في الزمن المدرسي وضرورة إعادة النظر في تدبيره، فالدرس الذي كان يستغرق ساعتان في الفصل الدراسي غدا لا يتجاوز نصف ساعة، ينضاف إلى ذلك عدم الاحتكاك بين المدرس والمتعلم ووجود مسافة مكانية وزمنية تمنح المتعلم الثقة في نفسه وفرصة للتعبير عن ذاته ومعارفه، لأنه أضحى بعيدا عن سلطة الأستاذ والإدارة، وعن الاحتكاك الذي قد يفضي أحيانا إلى عنف مدرسي لفظي أو جسدي. بعبارة أدق لقد فتحت بيداغوجية التعلم عن بعد للمتعلم آفاقا للتواصل الافتراضي الذي يمنحه فرصة للتخفي الشبيه بما كان يجده في مواقع التواصل الاجتماعي.
– لقد أسست بيداغوجية التعلم عن بعد حقا، قيما أخلاقية سامية أظهرت أهمية التعلم وضرورته، ومكانة المدرس كمنارة للعلم لا يمكن الاستغناء عنه، أو استبداله. مثلما انبثقت قيمة الحب وتقوت كقيمة إنسانية بين المدرسين والمتعلمين وأظهرت تكاثفهم من أجل القضاء على الجهل وبناء الذات وتحقيق التنمية الشمولية.
– لابد من التأكيد على الانخراط الوازن للأسر في بيداغوجية التعلم عن بعد، فهي التي وفرت الوسائل، وقامت بعملية التتبع، وهذا ما يبرهن على ضرورة حضورها في بناء التعلمات. لقد أدركت الأسر أن التعلم لا يمكن أن يقوم به طرف واحد بل لابد من تكاثف جهود الجميع، وبذلك قامت بأدوارها ولم تتنصل منه كما تفعل أحيانا في التعلم الصفي الحضوري فتلقي باللائمة على الأستاذ، أو توجه أصابع الاتهام للوزارة الوصية، أوتلقي بأبنائها إلى مراكز الساعات الإضافية.
هذه بعض عوامل النجاح لبيداغوجية التعلم عن بعد، لكن لا يمكننا في إطار المقاربة الموضوعية إلا أن نقف عند بعض عوامل الإخفاق التي يمكن أن تحملها هاته الطريقة البيداغوجية:
– من خلال تسمية هذه البيداغوجية(التعلم عن بعد) نستشف حضور عنصر جديد في عملية التعلم وهو (المسافة)، والتعلم كما هو معروف في الأدبيات التربوية هو سيرورة ذهنية يقوم بها المتعلم من أجل اكتساب التعلمات، وبهذا التحديد فإن المدرس هنا ليس له إلا دورا ثانويا، قد يحضر كموجه لمسار التعلمات أو وسيط، وقد يغيب. بخلاف إذا قلنا (التعليم عن بعد) فإن الأمر يقتضي حضور طرفين أساسيين هما المدرس والمتعلم وبينهما المعرفة، بمعنى حضور ما يُنعت بالمثلث البيداغوجي. ولنرجع الى عنصر (المسافة)، حيث نجد أنه في كلا الحالتين فإنها تمارس إقصاء لعناصر بيداغوجية وديداكتيكية عديدة من أبرزها: (المؤسسة كفضاء مكاني بخصائصه الهندسية والجمالية، شخصية الأستاذ، ديداكتيك المادة، التواصل بين التلاميذ داخل الفصل وخارجه، التفاعل الصفي، الزمن المدرسي، التقويمات…) ولا أحد ينازع في كون هذه العوامل لها وقعها في بناء التعلمات لدى المتعلمين، فما الذي يعوضها في إطار بيداغوجية التعلم عن بعد؟
– جل الطرائق القديمة أو الحديثة إن لم نقل كلها تتفق حول كون أن مفهوم التعلم يشمل(المعارف – المهارات – القيم – طرق التفكير)، وبالرجوع إلى بيداغوجية التعلم/التعليم عن بعد فإننا لا نختلف على كونها تركز على المعارف، فأين المهارات والقيم وطرق التفكير؟ لو كان الأمر يتعلق بالمعارف لما احتجنا إلى مدرسين، حيث يمكننا الاستعاضة عنهم بالكتب والمواقع الإلكترونية فهي غنية بالمعارف، وهذا ليس هو عين الصواب.
– النقطة السابقة تقودنا إلى النظر للعلاقة التواصلية بين المدرس والمتعلم، حيث نجد في العلاقة التواصلية الحضورية حسب الطرائق البيداغوجية الحديثة الشكل التالي:
الشكل(أ): المدرس المعرفة المتعلم
لكن هاته العلاقة ستتحول من خلال بيداغوجية التعلم عن بعد إلى الشكل التالي:
الشكل(ب): المدرس الآلة المعرفة الآلة المتعلم
وبمجرد ملاحظتنا البسيطة للشكلين يتبين البون الشاسع بين الطريقتين البيداغوجيتين شكلا ومضمونا، حيث يمكننا أن نسجل:
1- حضور التفاعل بين المدرس والمتعلم في الشكل(أ) وغيابه في الشكل(ب)، ويمكننا تخييل ما يترتب عن ذلك من مشاكل في التواصل أو في عملية التعلم ذاته، أوفي بناء شخصية المتعلم وقيمه.
2- تحضر المعرفة كمحور وكوسيط بين المدرس والمتعلم في الشكل(أ)، وهي مجال التفاعل، لكن في الشكل(ب) تحضر الآلة كوسيط بين المدرس والمعرفة وبين المتعلم والمعرفة، مما يعني إبعاد الأستاذ كمركز للمعرفة، فهاته الأخيرة ممكن أن تُقدم من الأستاذ أو من غيره.
3- حضور الآلة في الشكل(ب)، ضمن العلاقة التواصلية بين المدرس والمتعلم دليل قاطع على محاولة إضعاف البعد الإنساني والواقعي، وفي المقابل تكريس للبعد التكنولوجي الافتراضي، في اتجاه الاستغناء عن المدرس أو على الأقل التقليل من أدواره.
4- حضور الآلة إشارة ضمنية إلى قدرة التكنولوجيات الحديثة على اختراق مجال التربية والتعليم، واحتلال المسافة بين المعرفة والإنسان، مثلما اخترقت مجالات أخرى في حياتنا المعاصرة.
– لا نستطيع إنكار ضعف التحصيل الدراسي في بيداغوجية التعلم عن بعد، وذلك ناجم عن غياب التفاعل الواقعي نتيجة إكراهات اجتماعية أو اقتصادية، وأحيانا مادية وتقنية لدى التلاميذ، وكذلك غياب المقومات الديداكتيكية الأخرى المساعدة.
– لا يمكننا إغفال تأثير الوسائط التكنولوجية على الصحة النفسية والجسدية للتلاميذ، فالاستراتيجيات الذهنية المعتمدة في بيداغوجية التعلم عن بعد تختلف عن البيداغوجيات الأخرى، لذلك لا نستغرب في حالة عدم وجود تركيز لدى المتعلمين أو عدم قدرتهم على توظيف بعض مهارات التفكير نتيجة التأثير الآلي، زد على ذلك ما يمكن أن يصادفه المتعلم من مشاكل صحية ترتبط بالأساس بالعيون والظهر وأعضاء أخرى.
لقد كان رهان وزارة التربية والتعليم هو إدماج تكنولوجيا المعلومات والاتصال عبر مخططاتها الإصلاحية المتعاقبة، وقد تسنى لها ذلك من خلال تطبيق بيداغوجية التعلم عن بعد، ونعتقد أنها كسبت نسبة كبيرة من هذا الرهان نتيجة توافر جملة من الظروف التي عجلت بذلك. ومهما حاولنا تعداد سلبيات تطبيق هاته البيداغوجية فإن للوزارة الوصية ما يشفع لها في ذلك، فهناك الاستعجال والإكراهات الزمنية والتقنية والمادية وغيرها. ويكفيها من هذه التجربة أنها خاضتها، وأكسبت المدرسين والمتعلمين معارف وتكوينات، وراكمت موارد رقمية هامة، ومواد بحثية يمكن الارتكاز عليها من طرف المراكز البحثية التربوية للتناول والتدارس حول مدى فاعلية بيداغوجية التعلم عن بعد في الارتقاء بالتعلمات وتجويد الممارسة البيداغوجية.