الدكتور لحسن والنيعام يكتب : "الإعلام بالمغرب في مواجهة جائحة "كورونا": قراءة تحليلية للتداعيات وآفاق المستقبل"
لم تحظ بعد التداعيات الإعلامية لجائحة فيروس “كورونا” المستجد بما يكفي من القراءات التحليلية من لدن الباحثين والفاعلين المهنيين في المغرب، مقارنة بحضور نسبي لقراءات تستحضر التجليات والأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للجائحة. وسنحاول، من خلال هذه الورقة، إبراز انعكاسات الجائحة على المشهد الإعلامي بمختلف مكوناته ببلادنا، والطرق التي تعامل معها الفاعل الإعلامي المؤسساتي والمهني، من خلال التركيز على الملاحظات التي تهم الصحافة الورقية والصحافة الإلكترونية، واستقراء الآفاق المستقبلية لهذه المنظومة على ضوء هذه الانعكاسات، والإمكانيات المتاحة لتجاوزها، بغرض تفعيل ناجع للوظائف المنوطة بهذه المنظومة في ظل عالم يشير عدد من الخبراء، في مختلف المجالات، إلى أنه لن يكون هو نفسه قبل الجائحة.
ولا بد من الإقرار، منذ البدء، أن هذه القراءة التحليلية تحاول أن ترصد جوانب أساسية لملاحظات جوهرية يمكن اعتمادها لإجراء دراسات عميقة، وهي بذلك لا تدعي الإلمام بجميع الجوانب الأكاديمية والمهنية ذات الصلة بالموضوع، بالنظر إلى أن هذا الادعاء يحتاج، من الناحية المنهجية، إلى إجراء دراسات ميدانية بمناهج معتمدة. كما أنه يحتاج إلى تفصيل في القراءة التحليلية لكل مكون من مكونات المنظومة الإعلامية (صحافة ورقية/ صحافة إلكترونية/ غعلام سمعي ـ بصري)، مع ما يستلزمه ذلك من استحضار للخصوصيات المرتبطة بكل حقل من هذه الحقول.
1 ـ البيئة الإعلامية:
لقد حضرت جائحة “كورونا” كمجال اهتمام ومتابعة في المشهد الإعلامي ببلادنا، بمختلف مكوناته، بشكل بارز، بينما تراجعت الاهتمامات الأخرى إلى الخلف، إلى درجة تكاد تكون شبه غائبة. وتجد ثنائية الحضور والغياب، في هذا المجال، تفسيرين أساسيين. أولهما أن الإعلام في تفعيله لوظائفه الإخبارية والتثقيفية والترفيهية والتحسيسية والرقابية يعتبر بمثابة مجال يواكب متدخلين آخرين هم من يصنعون الأحداث في الميدان ويركز بالأساس عمله على الوساطة بين هؤلاء الفاعلين وبين الجمهور المتلقي للخدمة الإعلامية؛ والحال أن حضور جل هؤلاء الفاعلين في الميدان يكاد ينحصر في التدخلات والمجهودات والعمليات الرامية إلى مواجهة الجائحة.
وتنعكس هذه الانشغالات الأساسية في نوعية المتابعات التي يرصدها ويواكبها ويغطيها ويتابعها الفاعل الإعلامي. أما التفسير الثاني، فإنه مرتبط أيضا بالأول، وله علاقة بانشغالات واهتمامات وتطلعات الجمهور الذي يستقبل الخطاب الإعلامي في تنوع حوامله ومضامينه؛ إذ إن فئات واسعة من الجمهور منشغلة بتطوارات الحالة الوبائية وتداعياتها وتدخلات الفاعلين المؤسساتيين والاجتماعيين والاقتصاديين لتدبير هذه التداعيات. ولا يمكن، في هذا السياق، تصور خطاب إعلامي بعيد عن طرفي الرسالة الإعلامية، الأول مرسل لها والثاني متلقي لها.
لكن الأداء الإعلامي، في هذه الظرفية الصعبة، يتسم بمحدودية العمل يؤثر بشكل جدلي على جودة المضمون، بالنظر إلى الإجراءات المرتبطة بإعلان حالة الطوارئ الصحية والتي حدت من تحركات عدد من القطاعات الخدماتية في الميدان. فقد فرضت هذه الإجراءات المرتبطة بحالة الطوارئ الصحية على الصحفيين اللجوء إلى التعامل بكثافة مع وسائل الاتصال الحديثة، عوض الاتصال المباشر، كلما تعلق الأمر بإجراء الحوارات الصحفية أو المقابلات أو الحصول على المعلومات والمعطيات والأخبار من المصادر المختلفة والمتنوعة.
وإلى جانب تداعيات حالة الطوارئ الصحية على تحرك الفاعل الإعلامي في الميدان، فإن التداعيات الاقتصادية للجائحة تساهم بدورها في ضعف العملية الإنتاجية لعدد كبير من وسائل الإعلام بمختلف مكوناتها. فقد أوقفت جل المؤسسات الإنتاجية الكبرى برامجها الإعلانية، في إطار سياسة احترازية وربما تقشفية مرتبطة بتوازنات مالية لدى جزء من الفاعلين الاقتصاديين، وتوقف إنتاجي مفاجئ للبعض الآخر. وبإجراءات الحجر الصحي التي تمنع فئات واسعة من المواطنين من مغادرة منازلهم إلا للضرورة القصوى، وتوقف حركة التنقل بين المدن والمناطق، وإغلاق محلات بيع الجرائد لأبوابها، تراجعت بشكل كبير مبيعات الصحف الورقية، إلى درجة أن المجلس الوطني للصحافة تحدث على أن القطاع أصبح من القطاعات المنكوبة في ظل جائحة “كورونا”.
وإذا كانت هذه الظرفية الصعبة قد أرخت بظلالها على كبريات المؤسسات الإعلامية ببلادنا، إلى درجة أن بعض المؤسسات قد عمدت إلى خفض رواتب مستخدميها[1]، فإن الوضع يصعب أكثر بالنسبة لجزء مهم في القطاع لا يزال يعاني من ضعف في الهيكلة، مما أدى إلى نقص ملموس في حضوره في هذه الظرفية، وإلى محدودية في إسهاماته الإعلامية، خاصة على الصعيد المحلي والجهوي.
وإذا ما استحضرنا عددا من الإكراهات التي تعاني منها الصحافة في المغرب، خاصة منها الإلكترونية، ومنها إكراه صناعة المحتوى وتجويده، والذي له ارتباط وثيق بالموارد البشرية والإمكانيات الاقتصادية، فإن الأزمة ستحتد أكثر في الظرفية الحالية، حيث يلاحظ أن جل المتابعات الإعلامية تقتصر، في مواكبتها للجائحة، على نشر المعطيات والأرقام الرسمية، دون أن تقترح معالجات إعلامية أخرى من شأنها أن تعطي قيمة مضافة للمنتوج الإعلامي في علاقته بتطلعات الجمهور الذي أصبح أكثر إلحاحا.
لكن الظرفية الصعبة، في المقابل، كشفت عن جانب مهم من المسؤولية الإعلامية لدى عدد كبير من وسائل الإعلام. فقد انخرطت جل وسائل الإعلام في مجهودات التوعية والتحسيس، وأبانت عن حس وطني عالي في المساهمة في مواجهة الجائحة، رغم ما سجل من انتقادات لجزء من الصحف الإلكترونية في انخراطها المبالغ فيه في مواكبة تدخلات رجال سلطة وشخصيات سياسية إبان المراحل الأولى لإجراءات مواجهة الجائحة[2].
ومقارنة مع قضية تناسل “الأخبار الزائفة” في شبكات التواصل الاجتماعي، والتي أسفرت عن عشرات المتابعات القضائية[3]، فإن الممارسة الصحفية ظلت نسبيا بعيدة عن نشر مثل هذه الأخبار. ومع ذلك، فقد سجل المجلس الوطني للصحافة مؤاخذات سقطت فيها بعض الصحف، خاصة منها الإلكترونية، ومنها الترويج للخرافات، عن طريق تسجيل ونشر أشرطة فيديو يذهب فيها بعض الأشخاص إلى أنهم يملكون وصفات تقليدية لعلاج فيروس كورونا. ومن الواضح أن الترويج لمثل هذه الخرافات أن يؤدي إلى عدم الالتزام بالإجراءات الوقائية للسلطات الصحية، وأن يسفر تبعا لذلك عن احتمال انتشار الوباء في صفوف المخالفين. كما أن من شأنه أن يعرض الصحة العامة للخطر. ورأى المجلس الوطني للصحافة بأن الصحف التي سقطت في الترويج لهذه الخرافات إنما فعلت ذلك بحثا عن عددا كبير من المشاهدات والزوار لمواقعها، في سياق ما أسماه بـ”الإتجار بالأزمات”[4]. وعمدت بعض الصحف إلى إظهار وجوه المصابين دون موافقتهم، ومنها من نشر معطيات حول هوياتهم، وهو ما يتناقض وأخلاقيات المهنة. كما تم نشر أخبار دون التأكد من صحتها، لكن نسبة هذه الأخبار غير المؤكدة ظلت قليلة، مقارنة مع التوجه العام الذي يرصد الحالة الوبائية من خلال الاعتماد على المصادر الرسمية وعلى الخبراء والمتخصصين، وهو ما ينسجم مع دليل مهني اعتمدته النقابة الوطنية للصحافة المغربية[5].
2 ـ البيئة المحيطة:
ونقصد بالبيئة المحيطة كل الفاعلين المؤسساتيين (السلطات العمومية) وغير المؤسساتيين الذين يحيطون بالقطاع الإعلامي، والذين لهم علاقة تماس مباشر أو غير مباشر معه. ولا يمكن مقاربة وضعية الإعلام بالكتفاء فقط بإثارة المعطيات التي تتعلق ببنيته الداخلية، لأن نجاح أو إخفاق هذه البنية له ارتباط وثيق بالبيئة المحيطة. فمن الناحية المبدئية، لا يمكن مثلا للمنظومة الإعلامية أن تحقق الازدهار المنشود، في ظل عدم استحضار الجوانب السياسية للبيئة المحيطة. وهكذا، فكلما كان المشهد السياسي متسما بالتعدد واتساع هامش الحريات العامة، كلما ساهم ذلك في ازدهار الصحافة، وكلما تكرس توجه الحد من الحريات العامة ومن حرية التعبير، كلما أدى ذلك إلى انحسار وضعية الصحافة. أما في الجانب الاقتصادي، فإن الدينامية الاقتصادية شرط أساسي لازدهار الإعلام، لأن حركيته تعتمد بدرجة أساسية على هذه الحركية لتنشيط عائداتها الإشهارية. كما أن هذه الدينامية الاقتصادية تساهم كذلك في الرفع من القدرة الاستهلاكية للمواطن. وكلما ارتفعت هذه القدرة، كلما ساهم ذلك في الرفع من نسب الإقبال على استهلاك المنتوجات الإعلامية. وفي الجانب الاجتماعي، لا يمكن أن نتصور ازدهارا للإعلام في مجتمعات تعرف ارتفاع نسب الأمية، وتدني مستوى التعليم وتقلص مستوى التحضر، لأن استهلاك المنتوجات الإعلامية مرتبط بالضرورة بتحسن المستويات التعليمية وبتوسع المجالات الحضرية. وفي السياق ذاته، فإن التطور التقني، يساهم في هذا الزدهار، لأنه يمكن وسائل الإعلام من الوسائل التقنية المناسبة لتحسين الأداء وتقديم الجودة الفنية المطلوبة. ويدرك المتتبعون لتطور وازدهار وسائل الإعلام في العالم الأدوار الطلائعية التي لعبتها التقنية في انتعاش قطاع الإعلام.
وقد ساهمت هذه المعطيات في البيئة المحيطة بالإعلام في بلادنا في العقود الأخيرة في تطور ملموس لانتشاره. وإلى جانب ذلك، فقد اتخذت السلطات الحكومية إجراءات ترمي إلى تكريس هذا التوجه، خاصة في الجانب القانوني من خلال اعتماد مدونة النشر والصحافة، رغم بعض الانتقادات التي توجه إليها من قبل المهنيين. وتم إدماج الصحافة الإلكترونية لأول مرة ضمن هذا التوجه. كما تم إحداث المجلس الوطني للصحافة، كآلية مؤسساتية للتنظيم الذاتي للصحفيين. ومن جهة أخرى، تم إقرار الدعم الحكومي للمؤسسات الإعلامية، بغرض المساهمة في تأهيلها ومساعدتها على التغلب على الإكراهات الاقتصادية التي تعاني منها، رغم ما يسجل على هذا الدعم، خاصة وأن عددا من الفاعلين في المجال يرون بأنه قد كرس الأزمة البنيوية التي يعيشها القطاع من خلال الشروط التي أقرها للاستفادة من الدعم الذي لم تتمكن أجزاء واسعة من وسائل الإعلام التي في ترغب في مغادرة خانة الهوية لمعانقة الاحترافية، وذلك بسبب الشروط التي يستدعي الالتزام بها. وظلت كبريات المؤسسات الإعلامية “الكبيرة” هي التي تستفيد من هذا الدعم بشكل مستمر، دون أن تدفع هذه الوضعية وما يرافقها من انتقادات بالجهات الحكومية المعنية إلى مراجعة المفارقة، وتمكين جزء مهم من القطاع “غير المهيكل” في الإعلام المغربي من التوجه نحو الهيكلة.
وأعادت جائحة كورونا هذا الوضع الهش الذي يعانيه هذا الجزء من القطاع “غير المهيكل” إلى الواجهة، كما أظهر أيضا عدم متانة “النموذج” المهيكل أمام الصعوبات الاقتصادية التي فرضتها الظروف الصعبة للاقتصاد وما يرافق حالة الطوارئ الصحية من تداعيات. وقررت مجددا السلطات الحكومية (وزارة الثقافة والشباب والرياضة (قطاع الاتصال) بتنسيق مع مصالح وزارة الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة)، التدخل، بشكل استثنائي، لإقرار دعم من شأنه أن يساعد المقاولات الإعلامية المتضررة، سواء بالنسبة للصحف الإلكترونية أو الورقية.
لكن الشروط التي أقرتها بالنسبة للمؤسسات المتضررة، جعلت نفس الانتقادات السابقة تعود مجددا إلى الواجهة[6]. وجددت هذه الانتقادات مطلبها بإعادة النظر في تركيبة اللجنة الثنائية للدعم والتي تضم فقط في عضويتها تمثيليات عن كبريات المؤسسات الإعلامية، دون أن يحظى القطاع الهش بأي تمثيلية، وهو ما يؤثر سلبا على القرارات المتخذة. وأشارت هذه الانتقادات إلى أن المفارقة هو أن الدعم الاستثنائي سيوجه مرة أخرى لنفس المؤسسات الإعلامية التي تستفيد من الدعم السنوي الحكومي.
وإلى جانب التداعيات الاقتصادية للجائحة، فإن الظروف الحالية التي يمر منها المغرب قد أعادت مرة أخرى إلى الواجهة قضية تفعيل أقسام العلاقات العامة بالنسبة للمؤسسات العمومية ذات الصلة بتدبير الجائحة. فإذا كان الصحفي مطالبا من الناحية المهنية بأن يتحرى ويتقصى المعلومات والمعطيات والأخبار قبل أن يحولها إلى مواد إعلامية قابلة للنشر في حوامل إلكترونية أو ورقية أو سمعية بصرية، فإن عدم نجاعة انفتاح المؤسسات العمومية يطرح بشكل وازن من قبل المهنيين الذين ينتقدون ضعف أداء أقسام العلاقات العامة لدى هذه المؤسسات. ويقصد بهذه الأقسام تلك الهياكل المؤسساتية التي تشرف على تفعيل التواصل مع البيئة المحيطة بهذه المؤسسات، وضمن هذه البيئة تحتل وسائل الإعلام موقع الصدارة.
فقد حاولت مثلا وزارة الصحة أن تتدارك ضعف سياستها التواصلية، وأقرت عدة آليات وتقنيات ومبادرات للتواصل بخصوص الحالة الوبائية، لكن هذه السياسة التواصلية تضعف، إلى درجة كبيرة، كلما تم الانتقال إلى المديريات الجهوية والمديريات الإقليمية للصحة، وهو ما يكرس أجواء من سوء الفهم بين وسائل الإعلام المحلية والجهوية وبين هذه المؤسسات، ويؤثر سلبا على الخطاب التحسيسي والإخباري الذي يفترض أن تعتمده هذه المؤسسات في علاقتها مع الرأي العام المحلي والجهوي، خاصة وأن مثل هذا الفراغ من شأنه أن يفتح المجال أمام انتشار الأخبار الزائفة والكاذبة والإشاعات، مع ما لذلك من انعكاسات على المواطن المحلي والجهوي.
وفي مقابل هذا الارتباك في التواصل لدى مجموعة من المؤسسات العمومية والذي فرضه ضعف انخراطها في استراتيجيات تواصلية مسبقة ونقص في التراكم المهني في هذا المجال، فإن بعض المؤسسات واصل استثمارها لتراكماتها التواصلية، كما هو الشأن بالنسبة للإدارة العامة للأمن الوطني ومؤسسة النيابة العامة، ومؤسسة المندوبية السامية لإدارة السجون وإعادة الإدماج. وظهرت النتائج الإيجابية لهذه السياسة التواصلية في وسائل الإعلام، سواء على الصعيد الوطني أو المحلي أو الجهوي.
ويفرض هذا الوضع تأهيل أقسام العلاقات العامة في المؤسسات العمومية وتوظيف موارد بشرية مؤهلة للقيام بالمهام المنوطة بها، وقبل ذلك إقرار استراتيجيات تواصلية تكرس مبدأ الحق في المعلومة وتربط المسؤولية بالمحاسبة، وترسخ قيم الشفافية والحكامة الجيدة في تدبير الشأن العام، وتساهم في نشر المعلومات والأخبار والمعطيات ذات المصداقية. ومن المفروض أن لا يقتصر هذا التوجه على الصعيد المركزي، لأن الرهان الإرادي للمغرب على الجهوية المتقدمة لا يمكن أن يعطي نتائجه الإيجابية إلا بتكريس نفس الاختيارات على الصعيدين المحلي والجهوي، على اعتبار أن “إعلام القرب” له أدوار طلائعية في بناء مواطن إيجابي يراهن عليه لصنع التنمية المنشودة.
وأظهرت حالة الطوارئ الصحية وجود أجواء من سوف الفهم لا زالت قائمة بين قطاع الإعلام وبعض المؤسسات العمومية، وعلى رأسها وزارة الداخلية، وذلك في مسألة استثناء الصحفيين العاملين في الصحافة الورقية والصحافة الإلكترونية من “العمل الليلي” في المرحلة الثانية من التمديد والتي تزامنت مع شهر رمضان[7]. ويظهر أن وزارة الداخلية قد استحضرت، في اتخاذ هذا القرار، وضع غياب الهيكلة في القطاعين، مع ما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من “عدم ضبط” للمنتسبين. أما المهنيون فقد اعتبروا بأن هذا الإقصاء يكرس اختيارا يقلل من مجهودات وسائل الإعلام لمواجهة الجائحة ويندرج في سياق محاولة للحد من حرية تنقل الصحفيين لأداء الوظائف المنوطة بهم. ولم ينته الجدل حول هذه المسألة، رغم أن وزارة الداخلية عدلت هذا القرار، وربطت السماح للصحفيين بالخروج ليلا لمزاولة مهامهم بوضع المؤسسات الإعلامية لطلب لدى السلطات المحلية مرفوق بنسخة من البطاقة المهنية للصحفي المعني بالترخيص.
كما أثير لاحقا جدل آخر حول مشروع قانون له علاقة باستعمال شبكات التواصل الاجتماعي[8] اقترحته وزارة العدل، قبل أن تتخذ قرار تجميد مناقشته إلى حين انتهاء ظرفية حالة الطوارئ الصحية. وارتبط قرار تجميد مناقشته من قبل الحكومة بما خلفته بعض تسريباته المبتورة من انتقادات، خاصة وأن هذه التسريبات تتضمن عقوبات سجنية وغرامات ثقيلة للداعين إلى حملات مقاطعة منتوجات استهلاكية أو منتقدين لها. واعتبر عدد من رواد شبكات التواصل الاجتماعي بأن هذا المشروع يرمي إلى استغلال ظروف حالة الطوارئ لتكريس توجه يحد من حرية التعبير بالمغرب. ورغم أن هذا المجال له علاقة وطيدة بقطاع النشر والصحافة، إلا أن الأطراف المؤسساتية المعنية به لم تتم مشاورتها بخصوص هذا المشروع، قبل أن يتم طرحه للنقاش والتداول في الفضاءات الحكومية.
3 ـ خلاصات:
لقد أعادت الجائحة الجوانب التي تصنع أزمة القطاع الإعلامي ببلادنا مرة أخرى إلى الواجهة، لكن بحدة أكبر. ويمكن أن نميز بين جوانب ذاتية/ داخلية مرتبطة ببنية المنظومة الإعلامية، وجوانب أخرى لها علاقة بالبيئة المحيطة. لكن هذا التمفصل بين الذاتي والموضوعي يسعف فقط في التحليل، لأن أي اقتراحات لها صلة بسبل التأهيل لا يمكنها أن تنجح إلا باستحضار الجانبين معا، بالنظر إلى الارتباط الجدلي بينهما. وتبعا لذلك، يمكن القول إنه لا يمكن صنع نموذج مؤهل للإعلام المغرب، خاصة منه الورقي والإلكتروني، إلا بتوفير الشروط المناسبة لإعطائه دينامية اقتصادية، لأنها الكفيلة بتوفير الإمكانيات المواتية لتطوير التقنيات وتجويد المنتوج، وتوظيف الموارد البشرية، وترسيخ توجه الهيكلة. ولا يمكن أن يتم توفير هذه الدينامية، بعيدا عن الحركية الاقتصادية العامة لأنها لا توفر فقط موارد تجارية مهمة لمختلف مكونات المنظومة الإعلامية، وإنما تساهم أيضا في الرفع من القدرة الاستهلاكية للمواطن.
ومن ناحية البيئة المحيطة، فإنه قد سبق أن أشرنا إلى أن هذه البيئة مطالبة بأن تنفتح أكثر على وسائل الإعلام وأن تعطي الإهتمام اللازم لأقسام العلاقات العامة. ويفترض أن تكرس السلطات الحكومية والهياكل الذاتية للقطاع أجواء من الثقة المتبادلة يراهن عليها لكي تشكل لبنات أساسية لترسيخ فضاء مناسب للأداء الإعلامي مبني على ضمان وتوسيع الحريات العامة، من جهة، وعلى استحضار المسؤولية الإعلامية من جهة أخرى.
ويستدعي تجاوز تداعيات الجائحة التي تكرس الأزمة التي يواجهها القطاع أصلا، إعادة النظر في المقاربة المؤسساتية للدعم الموجهة إلى مكونات هذا القطاع، بما يمكن الجزء الأكبر الذي يعاني الهشاشة ونقص في توجه الهيكلة، من الاستفادة من الدعم العمومي، مع إقرار آليات للحكامة الجيدة، وباعتماد معايير دقيقة، وتتبع أطوار صرفه، مع تسطير برامج واقعية تمكن القطاع من الخروج من الهواية ومعانقة الاحترافية. ولن يتم ترسيخ هذا التوجه إلا بترسيخ النفس المقاولاتي، والعمل بالهياكل، وتطوير أقسام التحرير والإعتناء بالجوانب الفنية والتقنية. وهذه العملية مرتبطة ارتباطا وثيقة بتأهيل الموارد البشرية، والحزم في تقنين عمليات الولوج إلى المجال، حيث لا يستمر في البقاء ضمن مجالات محاربة ما يسمى بالبطالة المقنعة لدى عدد من المنتسبين.
ومن جهة أخرى، فإن مقاربة إعادة التأهيل تستدعي لزوما ضرورة اعتماد البعد الجهوي في برامج الدعم، لأن المعطيات الميدانية تفيد بأن الجزء الكبير من القطاع غير المهيكل يوجد في الجهات، في وقت تحاج فيه الجهوية المتقدمة بالمغرب إلى إعلام جواري قوي يواكب الشأن المحلي، متابعة ورقابة، ويساهم في تكوين مواطن إيجابي فاعل بشكل حاسم في صنع التنمية المحلية المنشودة. ومن المفترض أن يبنى هذا التوجه على تظافر جهود الفاعل الإعلامي، وهياكله التنظيمية، مع جهود الفاعل المؤسساتي الوصي.
[1] ـ رصد عدد من المهنيين في شبكات التواصل الاجتماعي إجراءات “تقشفية” لبعض المؤسسات الإعلامية “الكبيرة”، ومنها اتخاذها لقرار خفض رواتب مستخدميها بمبرر الحفاظ على استمرارية المنشأة الإعلامية
[2] ـ أطلق بعض المنتقدين على هذا النوع من المواكبات الإعلامية “صحافة القايد والقايدة”، في إشارة إلى وجود مبالغة في مواكبة تدخلات بعض رجال السلطة مما يحس معه المتلقي أن الغرض منها هو “تلميع” الصورة أكثر من تقديم خدمة إخبارية
<