مقدمة:
حق الخيار هو الحق الثابت لأحد المتعاقدين أو لكليهما في فسخ العقد اللازم أو إمضائه وإجازته بصفة نهائية، بحيث يصبح لازما بالنسبة له.
والخيار قد يثبت بنص الشرع صراحة كخيار العيب والرؤية وقد يثبت باشتراط المتعاقدين كخيار التعيين والشرط.
والخيارات في الواقع تخالف ما يقتضيه العقد من التزام إلا أنها شرعت لضمان المتعاقدين، وليكون كل منهما على بينة من أمره دفعا للغبن ومنعا للضرر.
والخيارات كثيرة ومتنوعة كخيار الشرط، وخيار الرؤية، وخيار العيب، وخيار المجلس وخيار الاستحقاق …
وهذه الخيارات ليست محل اتفاق بين كل الفقهاء، بل منها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه، وقد اختلف الفقهاء أيضا في انتقالها بالإرث.
وسأتعرض بحول الله في هذا المقال إلى انتقال بعض الخيارات بالإرث كخيار المجلس والشرط والتعيين والعيب والرؤية وذلك في المطالب الخمسة الآتية:
المطلب الأول: انتقال حق خيار المجلس بالإرث.
المطلب الثاني: انتقال حق خيار الشرط بالإرث
المطلب الثالث: انتقال حق خيار التعيين بالإرث
المطلب الرابع: انتقال حق خيار العيب بالإرث.
المطلب الخامس: انتقال حق خيار الرؤية بالإرث
المطلب الأول: انتقال حق خيار المجلس بالإرث.
إذا انعقد البيع ثبت لكل واحد من المتبايعين الخيار بين الفسخ أو الإمضاء إلى أن يتفرقا أو يتخايرا، وهذا عند الشافعية والحنابلة، ويستدلون على ثبوت هذا الخيار بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما للآخر اختر”[1].
وهو قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم. حكاه ابن المنذر عن ابن عمر وسعيد بن المسيب، وبه قال سفيان بن عيينة[2].
ويثبت حق خيار المجلس في العقود اللازمة الواردة على العين، كالبيع والصرف وبيع الطعام بالطعام والسَّلَم، والصلح عن المعاوضة … ولا يثبت في الحوالة والنكاح والصداق والإجارة والمساقاة، ولا يثبت كذلك في العقود الجائزة من الطرفين كالشركة والوكالة والوديعة والعارية والدَّيْن والجَعالة والقِراض … ولا يثبت أيضا في العقود الجائزة من أحد الطرفين كالضمان والرهن …[3]. وعند الحنفية والمالكية إذا حصل الإيجاب والقبول لزم البيع، ولا خيار مجلس لواحد منهما، وقد استدل الحنفية بأدلة كثيرة منها: قوله تعالى: “يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود”[4]. ومنها القياس على النكاح والخلع، فلا خيار مجلس فيهما[5].
واستدل المالكية بأن خيار المجلس يخالف عمل أهل المدينة، وإن ورد به الحديث الصحيح، فعمل أهل المدينة على خلافه، ويستدلون أيضا أن اشتراطه مفسد للبيع لأنه من المدة المجهولة[6].
والقائلون بخيار المجلس اختلفوا في توريثه، فعند الشافعية أن خيار المجلس يورث فإذا مات أحد المتعاقدين في المجلس لم يبطل خياره، بل الخيار لوارثه. وقد نص الشافعي على ذلك كما قال النووي[7]. وفي قول للشافعية أن الخيار لا ينتقل إلى الورثة، بل العقد يلزم بمجرد الموت لأنه أبلغ في المفارقة من مفارقته بالبدن ذكره النووي[8].
وبين الشافعية على القول بانتقال هذا الحق بالإرث، أن الوارث إذا كان طفلا أو مجنونا أو مُحجرا عليه بسفه، نصّب الحاكم من يفعل له ما فيه مصلحته من فسخ وإجازة، وبيّنوا كذلك أنه إذا كان وارث أحد المتعاقدين حاضرا في المجلس، ثبت له مع العاقد الآخر الخيار، ويمتد ذلك إلى أن يفترقا أو يتخايرا، وأما إذا كان غائبا ووصله الخبر فيثبت له الخيار، ويمتد إلى أن يفارق مجلس الخبر، لأنه خليفة مورثه، فثبت مثل ما ثبت لمُورثه وهو قول الأكثرين كما قاله الرافعي، وصححه النووي، وفي القول الآخر أن الحق يثبت للوارث باجتماعه مع العاقد الآخر في مجلس واحد[9].
وبين الشافعية في أصح أقوالهم أن الورثة المنتقل إليهم حق الخيار إذا أجاز بعضهم العقد، وفسخه الآخرون، فإن العقد ينفسخ في الجميع كالمورث لو فسخ في حياته في بعضه وأجاز في بعض، قال المتولي: ولا خلاف أنه لا يُبعّض الفسخ لأن فيه إضرارا بالعاقد الآخر، وفي القول الآخر لا ينفسخ في شيء[10].
وعند الحنابلة أن خيار المجلس يبطل بالموت، ولا ينتقل إلى الورثة جاء في المغني لابن قدامة: “وإن مات أحدهما بطل خياره، لأنه قد تعذر منه الخيار، الخيار لا يورث، وأما الباقي منهما فيبطل خياره أيضا، لأنه يبطل بالتفرق والتفرق بالموت أعظم”[11] وخيار المجلس لا يورث كما يقول الحنابلة والشافعية في قول لهم، لأن هذا الخيار يبطل بالتفرق والتفرق بالموت أعظم، وهذا رأي وجيه، لأن البيع في طريقه للزوم بافتراق المتعاقدين، فمتى افترقا لزم البيع، والمفارقة بالموت أبلغ من المفارقة بالبدن، ولهذا يبطل خيار المجلس بالموت، ويلزم البيع لحصول المفارقة كما يقول الفقهاء القائلون بخيار المجلس.
وفي معنى خيار المجلس خيار القبول، ويسميه الحنفية بخيار المجلس، وهو أن يقبل في مجلس العقد بعد إيجاب الموجب[12]. فإذا مات أحدهما، سواء كان البائع أو المشتري بعد أن أوجب الآخر، فهل ينتقل خيار القبول لورثته ؟
وعند الحنفية والشافعية خيار القبول لا يورث، ولذلك يسقط بموت صاحب الخيار.
وقال ابن عابدين: “وأجمعوا أن خيار القبول لا يورث”[13].
وقال النووي: “أما خيار القبول فلا يورث بلا خلاف، هذا هو المذهب وبه قطع الأصحاب”[14].
وعند المالكية إن حق خيار القبول يورث، ولا يسقط بالموت، جاء في الفروق للقرافي: “وينتقل للوارث عندنا خيار الإقالة والقبول إذا أوجب البيع لزيد فلوارثه القبول والرد”[15].
وما ذهب إليه الجمهور من الفقهاء من القول بعدم إرث خيار القبول هو الأوجه في نظري، لأن هذا الحق ضعيف. أضف إلى ذلك أيضا أننا إذا قلنا بوراثة هذا الحق لتضرر الموجب من جراء ذلك، لأنه لا يستطيع أن يتصرف في البيع حتى يعرف مصير ذلك البيع، إما بقبول الورثة أو ردهم. وفي ذلك ضرر بليغ ومشقة شديدة عليه، ولهذا فإذا أوجب البيع لزيد ثم مات دون قبول أو رد بطل الخيار ولا يورث عنه حتى لا يكون أي حرج أو مشقة في معاملات الناس بانتظار الوارث لقبول ما أوجب لمورثه.
المطلب الثاني: انتقال حق خيار الشرط بالإرث:
خيار الشرط هو أن يكون لأحد المتعاقدين أو لهما معا أو لمن ينيبه كل منهما أو لأجنبي اشترطا له ذلك الحق في إجازة العقد أو فسخه ولا يكون ذلك إلا باشتراطه في العقد صراحة بأي لفظ يدل على عدم الالتزام بالعقد مدة ثلاثة أيام فما دونها، كما يرى الحنفية والشافعية، أو أي مدة معينة تقدر بحسب الحاجة إليها على اختلاف المبيعات كما يرى المالكية، أو أي مدة يشترطها العاقدان كما يرى الحنابلة، وهذا الخيار يجب أن يكون مصاحبا للعقد لا قبله ويصح إلحاقه به لفترة طالت أو قصرت ما دام يقبله العاقد الآخر، والقول بخيار الشرط قول الأعظم من الفقهاء إلا الثوري وابن شبرمة، وطائفة من أهل الظاهر فإنهم يقولون بالمنع[16].
واستدل الجمهور بما روى أن حبان بن منقذ بن عمرو الأنصاري كان يُغبن في البياعات فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا بايعت فقل: لا خَلابة ولي الخيار في ثلاثة أيام”[17].
واستدلوا أيضا بالإجماع على خيار الشرط، قال النووي: اعلم أن أقوى ما يحتج في ثبوت خيار الشرط الإجماع، وقد نقلوا فيه الإجماع وهو كاف[18].
واختلف الفقهاء في انتقال خيار الشرط إلى الورثة بعد موت مورثهم فيرى الحنفية إذا مات من له خيار الشرط بطل خياره، ولم ينتقل إلى ورثته لأنه ليس إلا مشيئة وإرادة، ولا يُتصور انتقاله، والإرث فيما يقبل الانتقال والخيار رأي ووصف لصاحبه، فلا يمكن انتقاله للوارث لا بطريق الورث ولا بطريق الخلافة[19].
وهو رأي الجمهور من الحنابلة، لأن الخيار حق فسخ لا يجوز الاعتياض عنه فلم يورث كحق الرجوع في الهبة، ومحل ذلك إذا لم يُطالب به قبل موته، وأما إذا طالب به قبل الموت فلا يبطل، وينتقل إلى ورثته ولذلك يورث عنه بعد مطالبته به[20].
ويرى المالكية والشافعية وأبو الخطاب من الحنابلة أن خيار الشرط لا يبطل بالموت، لأنه حق ثابت لإصلاح المال، فيورث كسائر الحقوق المالية مثل حق الرهن وحق حبس المبيع وغيرهما[21].
واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: “من ترك مالا أو حقا فلورثته”[22].
يقول القرافي في فروقه في تصوير الخلاف بين المالكية والحنفية في توريث خيار الشرط ورده على أدلة الحنفية ما يلي:
ومدارك المسألة في أن الخيار عندنا صفة للعقد، فينتقل مع العقد فإن آثار العقد انتقلت للوارث. وعند الحنفية صفة للعاقد، لأنها مشيئته لا يورث فكذلك الخيار، ولأن البائع رضي بخيار واحد، وأنتم تثبتونه لجماعة لم يرض بهم وهم الورثة، فوجب ألا يتعدى الخيار من اشترط له. والجواب عن “الأول” أن اختياره صفته، ولكنه صفة متعلقة بالمال فينتقل تبعا للمال وعن “الثاني” أن الأجل معناه تأخير المطالبة والوارث لا مطالبة عليه، بل هو صفة للدين، لا جرم لما انتقل الدين للوارث انتقل مؤجلا. وعن “الثالث” أنه ينتقص بخيار التعيين وبشرط الخيار للأجنبي وقد أثبتوه للوارث … فهذا تلخيص مدرك الخلاف، ويعضدنا في موطن الخلاف قوله تعالى: “ولكم نصف ما ترك أزواجكم”[23] وهو عام في الحقوق فيتناول صورة النزاع[24].
لمتابعة المقال المرجو الظغط على البرابط أسفله :
https://drive.google.com/file/d/1d-oI5E4FVQyD8sBw7Fvx3yE4jdlNyr7C/view?usp=sharing