أحلام تفتقر إلى ترخيص(2)

مال قرص الشمس تدريجيا عن كبد السماء، في طريقه نحو الغروب، وهدأت الحركة قليلا بعد الزوال، وهرع الأحياء نحو الظل. وسكنت الأصوات في الزقاق الضيق تماما.. إلا من جلبة الكهل، وصوت الرفش بين يديه، يحرك خليط الخرسانة بين الحين والحين.. وتحت الأشعة الحارقة ، والحرارة المفرطة، تثاءب بصوت مسموع ، وانحدرت دمعة ساخنة على صفحة وجهه، واهتزت الصور والمشاهد في مخيلته، وقد أغراه هدوء المكان بالخلود إلى نوم عميق. فأسند ذقنه إلى الرفش وأغمض عينيه في إعياء. وظل واقفا بلا حراك! فاستسلم لأحلام اليقظة تداعب خياله، وتبعده عن الواقع الكريه؛ تنغصها عليه بين الفينة والأخرى، ذكرى ليلة أمس العصيبة، وساعات المرض والألم التي ألمت بزوجته قبل أن تخلد إلى النوم. تساءل في قرارة نفسه عن تطورات حالتها. ودعا لها طويلا بالشفاء، وقد عاهد نفسه على مرافقتها للطبيب وشراء الدواء لها عند أول أجرة يتسلمها لقاء عمله..
ظل على موقفه الجامد للحظات ثم ما لبث أن شعر بحركة مريبة في الجوار جعلته يفتح عينيه دفعة واحدة؛ وحانت منه التفاتة إلى آخر الزقاق الضيق، فاسترعى اهتمامه مشهد سيارة سوداء، راح يحدق فيها وهي تجوب الطريق، وتتقدم رويدا نحو البناية التي يشتغل بها. وما أن توقفت حتى نزل منها رجل مهيب ، يرتدي حلة سوداء لامعة، برباط عنق أحمر.. نظر نحوه شزرا، دون أن يعبأ بنظرات التودد التي رسمها على وجهه، أو يهتم بإلقاء التحية عليه. وقد انشغل بإلقاء مجموعة من الأوامر بصوت أجش ، وبصرامة كبيرة إلى عدد من معاونيه ، في زيهم الرسمي؛ ذعر الكهل لمرآهم لأول مرة وهم يغادرون السيارة ويبتذرون تنفيذ الأوامر ويتسابقون في القيام بها.. ومن دون سابق إنذار، تهافتوا على أدوات البناء المنتشرة في المكان، فحمل الأول معولا، والتقط الثاني مطرقة ظخمة، ثم هجموا على الجدران، وانهالوا عليها ضربا يحطمونها بغيظ كبير، بينما انشغل ثالث بجمع باقي أدوات البناء.. المنتشرة في الأنحاء.. ووضعها في حقيبة السيارة السوداء.. ثم انتزع الرفش من يد الكهل في غلظة وقسوة، تعجب لهما هذا الأخير وهو يراقب المعلم ادريس وقد اتجه نحو صاحب البذلة السوداء يستعطفه ويتوسل إليه في ترك أدوات البناء، دون أن يلتفت نحوه، أو يأبه لتوسلاته ويهتم بالرد عليه؛ وقد شمخ بأنفه نحو السماء، وهو يراقب الجدران تتهاوى أمام ضربات رجاله القوية. ثم ما لبث أن أمرهم بالعودة إلى السيارة. دون أن ينسى أن يلقي بكلمات بذيئة يعنف بها المعلم وصاحبه ويتوعدهما بالويل والثبور ، إن هما عادا لمثل عملهما اليوم. ثم استقل سيارته وغادر المكان كالسهم.
تسمر المعلم ادريس في مكانه وقد شمله غضب مكتوم، واتجه إليه الكهل يهدئ من روعه ويستفسره عن الأمر. فضرب يدا بيد، وهو يشعل سيجارة جديدة ويجلس القرفصاء إلى جانب حطام البيت؛ ثم رد يخبر الكهل بأن التفسير الوحيد لتصرف صاحب الحلة السوداء مع رجاله، قد يكون راجعا بالأساس إلى كون صاحب البيت لا يتوفر على رخصة للبناء! ثم سحب نفسا عميقا، وعاد ينفث الدخان في حنق وضيق وهو يردف أنه نسي أن يسأل صاحب البيت عنها في غمرة فرحته وهو يكلفه بالعمل الجديد، فكان جزاؤه أن فقد عمله، وصودرت أدواته!
ظل الكهل يرمق الدمار الذي حل بالبناية في حنق شديد، وشعر بغصة كبيرة في حلقه، وآسف لما آل إليه حال الجميع؛ وتيقن أن خسارته لا تقل في شيء عن صديقه المحبط، ولا عن صاحب البيت المتهدم آنفا. فسيطر عليه الوجوم ، وانتشرت بين ملامحه كآبة شديدة، وحزن عميق. ثم ودع صديقه بعبارات مقتضبة، وبصوت مبحوح تخنقه العبرات. وانفلت عائدا إلى بيته في خطوات متثاقلة بطيئة، وقد أحس أن كل الأبواب أصبحت موصدة في وجهه.. وأن العراقيل تستهدفه دون غيره.. وقد استنفدت منه كل الحلول؛ وبدا له طريق العودة أطول من المعتاد.
تبدى له وجه زوجته المريضة، وأركان بيته الفارغة الموحشة، وأحس بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقه، وبثقل يكاد يفصم ظهره.. أدرك عند هذه اللحظة أن حياته كلها تحتاج إلى ترخيص، وليس فقط البناية المهدمة! وخيل إليه أن كل القوانين وجدت لتعترض طريقه، وتقف في وجه أحلامه البسيطة. ثم شعر بضيق كبير في التنفس عند هذا الحد. وأحس بدوار يكتنف رأسه، ودارت الأشياء من حوله.. وعجزت قدماه عن حمله.. وألمت به حالة غريبة.. ومرت به لحظات عصيبة.. ودب اليأس سريعا إلى قلبه، فشمله إحباط لم يعهده من قبل، ولا قبل له به. وبدا وكأن العمر قد تقدم به عشر سنوات على الأقل… ثم ما لبث أن تمالك نفسه، ووقف لبرهة يفكر في محنته، وفي مجهوداته التي ضاعت سدى؛ وأيقن بعدم جدوى عودته إلى البيت ، فانحرف عن الطريق المعهود ، وسلك طريقا آخر جديدا وقد تبدلت سحنته عن ذي قبل ، و تنكر لكل معارفه، وغابت الابتسامة المعهودة على وجهه، وقطب جبينه، وتطاير الشرر من عينيه، وسولت له نفسه القيام بأشياء غريبة لا عهد له بها، وبات الشيطان أقرب إليه من كل وقت مضى، وأحس بقوة قاهرة تجذبه نحوه الهاوية؛ فتسارعت خطواته بشكل ملفت، ومضى لا يلوي على شيء…