عبقرية الحسن الثاني كما كشفها تقرير ضابط استخباراتي جزائري رفعت عنه السرية

تقرير خطير رفعت عنه السرية لضابط استخباراتي جزائري حول العلاقات الجزائرية المغربية يقدم رؤية غير مسبوقة حول اسباب اعتبار الملك الراحل الحسن الثاني واحدا من اعظم العقول الاستراتيجية في القرن العشرين العربي. فبحسب التقرير، فإن قدرة الحسن الثاني على قلب ميزان القوى اقليميا ودوليا، رغم محدودية الموارد مقارنة بالجزائر في عهد بومدين، تمثل حدثا سياسيا سيظل مادة للدراسة لعقود.
كان امام الحسن الثاني خصم اقوى عشر مرات على الاقل: جزائر بومدين، المدعومة بتحالف ثوري عالمي يضم الاتحاد السوفياتي وكوبا وليبيا وسوريا وكوريا الشمالية وجنوب اليمن وفيتنام. جيش اكبر، مال اكثر، دعم دولي واسع، وصورة دولة ثورية تقود العالم الثالث. ورغم ذلك، خرج المغرب من المواجهة التاريخية منتصرا، محافظا على الصحراء، ومحوّلا الجزائر الى دولة منهكة اقتصاديا وممزقة سياسيا. وبحسب التقرير، فإن هذا الانتصار لم يكن صدفة، بل نتيجة عبقرية استراتيجية نادرة.
اولا، لعب الحسن الثاني على التناقضات الدولية ببراعة استثنائية. فقد اقنع الولايات المتحدة بان الصحراء تشكل حاجزا امام التمدد السوفياتي في غرب افريقيا، واقنع فرنسا بان المغرب هو الضامن الوحيد للاستقرار في المنطقة المغاربية، ثم اقنع السعودية بان بومدين “شيوعي ملحد” يهدد المنطقة بثورته. وبذلك وضع الجزائر في مواجهة مباشرة مع القوى الكبرى في العالم العربي والغربي.
ثانيا، قام بإنشاء الجدار الامني في الصحراء، ما حوّل المواجهة الى حرب استنزاف طويلة لا تستطيع الجزائر ولا حلفاؤها من ليبيا وسوريا وكوبا تحملها ماليا وعسكريا الى الابد. هذا القرار غيّر قواعد اللعبة بالكامل، ففتحت دول الخليج خزائنها للمغرب، وقدمت مليارات الدولارات كمنح وهبات وقروض بدون فوائد، مع تسهيل وصول السلاح الامريكي عبر قنوات خليجية رغم القيود الشكلية.
وبحسب التقرير، فإن السوفيات انفسهم تخلوا في النهاية عن بومدين ضمنيا واعترفوا بسيادة المغرب على الصحراء من خلال تغيّر مواقفهم بعد سنوات من الجمود.
ومن بين الخطوات المفصلية، استطاع الملك الحسن الثاني اقناع صدام حسين، الذي كان حليف الجزائر نظريا داخل الجامعة العربية، بأن بومدين يطمح لقيادة “الامة العربية” وان طموحه لن يتوقف عند الصحراء المغربية بل قد يمتد الى الخليج نفسه. وهكذا فتح العراق قنوات سرية مع الرباط منذ 1976، وقدم للمغرب بترولا مجانيا او بشروط ميسرة في اصعب الظروف، واحتضن تدريبات لضباط مغاربة، وشارك في تبادل معلومات استخباراتية ضد البوليساريو والجزائر. وخلال حرب العراق ايران (1980 – 1988)، ظل المغرب محايدا رسميا، لكن الجميع كان يدرك ان حياده يميل لصالح بغداد، ما شكّل صفعة مؤلمة للجزائر التي دعمت ايران سرا.
ترك الحسن الثاني الحلفاء ينزفون مع الجزائر حتى الانهيار. ليبيا انفقت مليارات على البوليساريو ثم انسحبت بعد هزيمة اوجادو 1988، وسوريا سحبت لواءها المدرع منهكا، والقذافي تورط في حرب تشاد والعقوبات الدولية، اما كوبا فانكمشت مع بداية السقوط السوفياتي. كل ذلك بينما ظل المغرب يرسخ وجوده في الصحراء خطوة بعد خطوة.
ثم يدخل التقرير مرحلة الشاذلي بن جديد، الذي يعتبره الضابط الجزائري “اسوء رئيس في تاريخ الجزائر”، ليس لسوء النية بل لانعدام الكفاءة في لحظة كانت فيها البلاد تحتاج قائدا قويا. ففتح الاستيراد دون خطة بعد انهيار اسعار النفط 1986، فانهار الدينار من 5 دنانير للدولار الى 25 في سنتين، واغلقت المصانع العملاقة لارتفاع تكاليف قطع الغيار، وتفاقمت الديون الى اكثر من 30 مليار دولار بعدما كانت الجزائر بلا ديون في عهد بومدين. ثم قام بتفكيك الدولة البومدينية بسرعة، فألغى التخطيط المركزي وشرع في خصخصة عشوائية فجرت الفساد، وحوّل الجزائر من دولة صناعية صاعدة الى سوق مفتوح للبضائع الاوروبية.
ازمة اكتوبر 1988 كانت بداية الانفجار، وتعددية 1989 جاءت كحل ظرفي، لكن الغاء انتخابات 1991 التي فازت بها الجبهة الاسلامية للانقاذ فجّر العشرية السوداء التي حصدت اكثر من 200 الف قتيل وكلفت البلاد تريليون دولار. وفي ملف الصحراء، وقع الشاذلي اتفاق وقف اطلاق النار 1991 رغم ان المغرب كان يسيطر على 90 في المئة من الارض، ما اعتبره التقرير اعترافا ضمنيا بالخسارة.
هكذا فقدت الجزائر هيبتها الدولية، ومن دولة كان بومدين يرعب بها الغرب ويُحترم في موسكو، اصبحت تحت وصاية صندوق النقد الدولي بين 1990 و1994. وخلال كل هذه السنوات الحرجة، كان الملك الحسن الثاني واقفا، يشاهد التحالف المعادي ينهار قطعة قطعة، بينما يرسخ سيادة المغرب على الصحراء الى الابد.
يخلص التقرير الى ان الحسن الثاني واجه تحالفا يضم الجزائر وليبيا وسوريا والاتحاد السوفياتي وكوبا وكوريا الشمالية، بجيش اضعف ومال اقل، لكنه هزمهم جميعا عبر الصبر الاستراتيجي والذكاء الدبلوماسي واستغلال تناقضات الخصوم وقراراتهم الكارثية. ويشبّه الضابط الجزائري ما فعله الحسن الثاني بما كان قد يفعله خالد بن الوليد لو قاتل البيزنطيين بينما كان الفرس يمولونه سرا ضد البيزنطيين، في مفارقة توضح حجم التعقيد التاريخي.
بحسب التقرير، سيظل هذا الانتصار يُدرّس في كليات الحرب والعلوم السياسية لقرون، كنموذج نادر لملك استطاع، بعقل استراتيجي فذ، ان ينتصر على تحالف عالمي كامل، وان يحوّل ميزان القوى في المغرب العربي بذكاء استثنائي جعل منه استاذا في لعبة الامم، وليس مجرد قائد سياسي.




