المغرب

رمضانيات صفروبريس..الدكتورة مليكة نايت لشقر تكتب : "التحصيل العلمي في زمن الأوبئة: إصرار وعطاء"

playstore

لما كان العلم ميراث الأنبياء وأعز النعم، وأعلى المنازل والرتب، وكان الطريق المؤهل إلى جنة الدارين، فلابد أن يكون تحصيله بتضحية ثمينة ومجهودٍ عظيم؛ وكيف لا والمكارم  منوطة  بالمكاره، والسعادة لا يعبر إليها إلا على جسرٍ من التعب والعناء.

لقد حرص الفاهمون الصادقون على تحصيل العلم والسعي في طلبه، بصورة قد يتعجب لها الكثيرون ممن لم يدركوا بعد قيمة العلم وثمراته، بل بصورة تُهوِّن على من يعرفها كلَّ شدة، وتجعلهم يبذلون أنفسهم طواعية في سبيل تحصيله، هذا في الأحوال الشديدة العادية، فما بالك بأحوال طارئة على الإنسانية تعصف بشتى طقوسها الحياتية، وتحبس أنفاسها وتلبس أفكارها لباس الحيرة والتردد بين الإقبال والإدبار.

sefroupress

الجوائح سنة كونية، عهدت الإنسانية أن تعيشها بالتقسيط، إلا أن جائحة فيروس كورونا أجملت البشرية فيها وتربعت على رؤوس كل الدول والمجتمعات دون تحيز أو محاباة، فما كان أو سيكون من مُخَلّص لها بعد مشيئة الله إلا بموقع العلم والعلماء في هذه المجتمعات، وبقيمة العلم في تصوراتها وواقعها.

فكما أن العلم قد يدحر البشرية ويطوي صفحاتها المشرقة بالخسارة،  إلا أنه أيضا قد ينقذها من أحلك معاناتها ويبعث إشراقتها من جديد، لذلك كان طلب العلم والصبر في طلبه وتحصيله غاية ومسلك العلماء والطلاب، وسنة  تنبض بين الشعوب والمجتمعات.

        لقد وقف العلم والعلماء بمختلف تخصصاتهم في الصف الأول لمجابهة وباء العصر، فكان ضروريا أن أتناول موضوع التحصيل العلمي في ظل هذه الجائحة من زاوية خاصة أعبر من خلالها إلى الضفة الأخرى، ضفة طلاب العلم، وأكشف اللثام عما يحفهم من تحديات نفسية، ومعاناة شتى، محاولة فتح بعض النوافذ النورانية التي تمنح الأمل وتثير الهمم نحو الأفضل، ولن أجد أفضل من قول الله عز وجل: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ)[1] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: منْ “سَلَكَ طَريقًا يَبْتَغِي فِيهِ علْمًا سهَّل اللَّه لَه طَريقًا إِلَى الجنةِ، وَإنَّ الملائِكَةَ لَتَضَعُ أجْنِحَتَهَا لِطالب الْعِلْمِ رِضًا بِما يَصْنَعُ”[2] …للتأكيد على رفعة وقيمة العلم بشقيه الديني والدنيوي، وبكل صوره وبشتى وسائله، مادام نافعاً للمجتمع الإنساني ومفيداً، بل ومحرراً للعقل والضمير والوجدان، فما علا شأنه صعب نيله.

لقد ارتبط طلب العلم دائما بالصبر، قال الشاعر:

لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله *** لن تبلُغ المجد حتى تلعق الصبرَا

 لأن الصبر هو المعبر الأمثل من الابتلاء إلى النجاة، ومن ثقل الشدائد إلى عز النجاح،  لذلك  كان الصبر صفة لازمة لطالب العلم والعلماء، سواء تعلق الأمر:

بالصبر على تعب التحصيل والقسوة على النفس المذللة وتطويعها لقيم العلم الفضلى، فقد  روى الإمام مسلم في صحيحه عن يحيى بن أبي كثير رحمه الله أنه قال: “لاَ يُسْتَطَاعُ الْعِلْمُ بِرَاحَةِ الْجِسْمِ”[3] ، وقال فخر الدين محمد الساعاتي أحد جهابذة الطب في تاريخ الإسلام، حين وصف معاناته في تحصيل الطب

يحسـدني قومـي على صنعتي  *** لأننــي بينهـــــــم فــــارس
       سهرت في ليلي واستنعســوا *** لن يستوي الدراس والناعس[4]

وهذا توماس أديسون مخترع المصباح الكهربائي  كان يختلس من عمره فترات قصيرة للراحة،  ويقول عن اختراعه لما سُئِل عن سر هذا الإنجاز الجبّار أجاب: “إن المثابرة والكد والصبر أساس النجاح، وإن نسبة الوحي والإلهام هي 1%، والباقي عرق جبين”.

أو  بالصبر في طلب العلم على الشدائد، والمحن وشتى أنواع الجوائح التي عاش في ظلها أبرز علماء الإنسانية، وانتهت بالابتكارات التي غيرت مسارها.

فهذا نيوتن عاش مرحلة الطاعون وأثمرت فترة حجره الصحي عن اكتشاف  الجاذبية  وقال في مذكراته وهو يصف  سنوات الطاعون: بأنها “كانت في أوج عمري للاختراع والرياضيات والفلسفة الذهنية أكثر من أي وقت مضى”.

وهذا الدكتور الفرنسي لويس  جان باستور الملقب بأبي المناعة، أنقذ البشرية من ويلات الأوبئة والأمراض الفتاكة، وهو أحد أهم مؤسسي علم الأحياء الدقيقة في الطب والتطعيم العلاجي والوقائي، وتخصص في علم الأوبئة بسبب “داء التيفود” الذي أفقده ثلاثة من أبنائه.

ففي ظروف الشدائد لم يستسلم العلماء للأمر الواقع ولم يكسلوا أو يتوانوا بل برعوا واخترعوا وصنفوا الكتب والمصادر التي تنهل منها الأجيال في جميع العلوم.

إن القصد من الشواهد المُلْهمة من هؤلاء العلماء وغيرهم، أن ترشد طلابنا وكل عاشق للعلم والمعرفة إلى التركيز على الجوانب المضيئة في هذه الجائحة، ومحاولة تجاوز كل تحدياتها وصعابها المرتبطة بالتحصيل العلمي، ونذكر منها :

Ø    المواجهة المباشرة لطلاب العلم مع الأبجديات الأولى للتحصيل العلمي الافتراضي، بعيدا عن التعليم الكلاسيكي ، بعيدا عن الأساتذة، وعن المحيط المدرسي والجامعي، لكن المبهج في هذه التجربة بكل نواقصها، هو تجاوب أغلب الطلبة مع الموجود، وانخراطهم في عملية التفاعل مع الأساتذة من خلال طرح الأسئلة والحرص على الفهم، مما لم يكن ينشطون له  ربما  لأسباب نفسية وهم بين جدران الأقسام والمدرجات .

Ø    قلة الإمكانات المادية التي تيسر عملية التحصيل، بما في ذلك التحدي الجغرافي حيث تتصدر البوادي والقرى مواقع سكن أغلب الطلبة، حيث تقل وسائل التواصل أو تنعدم أحيانا.

Ø    معاناة الطلبة المادية المرتبطة بالفقر والعوز، مما يجعل أغلبهم بين مفترق الطرق، إما الإصرار على تبني فلسفة التحدي للوصول إلى بر الفوز وتغيير الوضع إلى الأفضل أو اختيار الاستسلام وتضخيم أنا الحاجة والعوز وتغليب الرؤية السوداوية للوضع بكل تقلباته.

إن حرارة كل هذه التحديات وشدتها يعتبر من مألوفات الإنسانية، ولعل الشيء المتفرد الذي يزيد من حدتها آنيا فتور الرغبة والشغف في التحصيل العلمي والمعرفي، وتغليب التفكير في النتائج قبل العمل بالأسباب، واعتناق فلسفة الاكتفاء بالقليل المؤدي إلى النجاح،  والاستقواء بضغط الظروف…

إن جائحة كورونا أفرزت حالة زمنية متفردة تستدعي من طلابنا ومنا أيضا ما يلي:

*   أن ندرك أن الرؤية للأشياء والأفكار والأشخاص قد تغيرت بعد جائحة كورونا، وأن نتأمل مقصد التنعم في الوجود والموجود الذي يُظللنا، وأن النقم غير بعيدة عنا فهي أقرب إلينا من حبل الوريد، وأن ما كان متاحا اليوم قد يصبح مستحيلا غدا،

*   إن التحصيل العلمي البناء يتطلب من الطالب تثمين الزمن الذي يهدر  في متاهات اللاشيء واللامعنى واللافائدة، وأن اللحظات التي تنقضي بعيدا عن بناء الذات خسارة،

*   إن التحصيل العلمي ليس كتلة  من المحصلات، لكنه تثمين للذات وتعزيز للثقة بها  واعتبار اجتماعي، وطموح يغذي النفس والروح لمزيد من الاستقرار والعطاء والتجاوب الإيجابي مع الذات،  قال الإمام الشاطبي : “في العِلْم بالأشياء لذَّة لا تُوازيها لذَّة”

playstore

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. صحيح أستاذة ،فالبشرية تحتاج للعلم الدنيوي النافع،كما تحتاج لباقي العلوم ،وصرف النظر إلى آيات الله في مخلوقاته..الله يصلح حالنا ويرفع عنا هذا الوباء

  2. بورك فيك أستاذتي الفاضلة علي هذا المقال الرائع أنا كقارئ المقال معبرا عن رأيي الشخصي مقالك رائع من أجمل ما قرات جمعت فيه بين شيئن أساسين وهما
    أ-الصبر
    ب والجد
    ومقالك هذا أحاط بمجموعة من الشواهد الحية التي أعطت للمقال جمالا ورونقة خاصة من أبيات شعرية ونماذج لعلماء بزغ نجمهم في العلم والمعرفة وخصوصا أستاذتي أنك ذكرت نقطة مهمة وهي أننا استطعنا الوقوف ضد هذا الوباء دون أن يكون عائقا بيننا وبين العلم وختمت مقالك بالدعاء برفع الوباء والبلاء فما أروعها من خاتمة
    بارك الله في عمرك ورزقك.زيارة بيت الله الحرام
    محبكم في الله: الطالب :مصطفي زريوح طالب بكلية الشريعة بفاس الفصل الثاني المجموعة 5

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WeCreativez WhatsApp Support
فريق صفروبريس في الاستماع
مرحبا