
فرنسا التي تفتخر بأنها مهد الثورة وحقوق الإنسان، ليست في حقيقتها سوى دولة تعيش على التناقضات. ديمقراطية في الشعار، لكنها في العمق متورطة في فضائح سياسية واقتصادية واجتماعية تهز صورتها أمام العالم. من قاعات المحاكم في باريس إلى مناجم الذهب في إفريقيا، يتضح أن الديمقراطية الفرنسية ليست سوى قناع يخفي خلفه شبكة مصالح ونفوذ مبنية على استغلال الآخر ونهب ثرواته.
الرؤساء الذين يفترض أن يكونوا حماة النظام الديمقراطي، وجدوا أنفسهم في قلب قضايا فساد وتمويلات مشبوهة. نيكولا ساركوزي، على سبيل المثال، يواجه محاكمة بسبب تلقيه أموالاً من نظام القذافي لتمويل حملته الانتخابية سنة 2007. فاليري جيسكار ديستان ارتبط اسمه بفضيحة الماس القادم من إفريقيا الوسطى، أما جان كريستوف ميتران فكان من أبرز المتورطين في فضيحة أنغولاغيت المتعلقة بصفقات سلاح غير قانونية. هذه القضايا ليست مجرد حوادث معزولة، بل هي جزء من منظومة سياسية اعتادت الخلط بين المال والسلطة والنفوذ الدولي.
وإذا كانت السياسة غارقة في الفساد، فإن الاقتصاد الفرنسي مبني على استغلال الشركات الكبرى لموارد إفريقيا. مجموعة بولواري فرضت هيمنتها على موانئ غرب إفريقيا، وشركة توتال إنرجيز حولت مشاريع النفط والغاز في أوغندا وتنزانيا وموزمبيق إلى مصدر نهب منظم، مطاردة آلاف الفلاحين من أراضيهم مقابل تعويضات هزيلة، فيما تعرض المدافعون عن البيئة للاعتقالات والتضييق. هذه الممارسات لا تنفصل عن إرث “فرانكافريك” الذي جعل من القارة الإفريقية خزانا لا ينضب لمصالح باريس.
المفارقة أن فرنسا، التي لا تملك فوق أراضيها ثروات طبيعية ضخمة، بنت اقتصادها على الذهب واليورانيوم والنفط والغاز الإفريقي. إنها دولة تعيش رفاهيتها بفضل معادن ليست لها، واقتصادها قائم على نهب مقدرات شعوب تعاني الفقر والتهميش. فبينما تستعرض باريس قوتها الاقتصادية في أوروبا والعالم، تبقى الحقيقة أن هذا الازدهار ما هو إلا انعكاس لثروات منهوبة من إفريقيا.
ولم تتوقف التناقضات عند الخارج، بل وصلت إلى الداخل. في قلب فرنسا، عمال موسميون من إفريقيا وُصفوا بأنهم يعيشون “حصاد العار”، حيث اكتُشف أنهم يعملون في ظروف أشبه بالعبودية الحديثة في حقول الشمبانيا. المحاكمات التي جرت لاحقا لم تغير الكثير، لأن استغلال المهاجرين أصبح جزءا من بنية الاقتصاد الفرنسي الساعي دوما للحفاظ على صورته البراقة على حساب أضعف الفئات.
هكذا تتجلى صورة “فرنسا الديموقراطية”: دولة ترفع شعارات الحرية والمساواة والإخاء، لكنها تشرعن الاستغلال وتغطي على الفساد وتبني قوتها على نهب الآخرين. أزمة فرنسا ليست مجرد فضائح متفرقة، بل هي أزمة بنيوية، تعكس نموذج هيمنة يتكرر منذ الاستعمار حتى اليوم. من ساركوزي إلى بولواري، ومن جيسكار إلى توتال، الخيط الناظم واحد: ديمقراطية واجهة، واستغلال جوهر. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل تملك فرنسا الشجاعة لمواجهة هذا الإرث والتصالح مع قيمها المعلنة، أم أنها ستظل أسيرة مصالح أوليغارشية تنهب الداخل والخارج باسم “الديمقراطية”؟




