لم نشعر بأنفسنا والوقت يقطعنا كما تقطع السكين الحادة عنق الخروف في المجزرة، لقد كبرنا، ومات جدي ثم تبعته جدتي رحمها الله، فتغيرت الحياة من حولنا. لقد تزوج منا من تزوج، وهاجر من هاجر.ثلاثة من أبناء عمي هاجروا إلى الديار الفرنسية. واثنان من إخوتي إلى الجندية. بقينا نحن في المدشر نعاني الأمرين مع الفلاحة التي أصبحت تحت رحمة الجفاف. إذا جادت السماء بالأمطار سنة، انقطعت عنها سنوات!
لقد قل الماء في العيون، وشح الزرع وتأثر الضرع، ولم تعد الفلاحة قادرة على استيعابنا. وحتى ولو نزل الغيث ونما الزرع، فتبقى دائما حياتنا عاجزة على الوقوف في وجه ذلك الأخطبوط القادم من الغرب. فما يصرف على الفلاحة أقل بكثير مما يؤخذ منها، حيث إن القيمة المالية لمخزن ممتلئ عن آخره بالزرع، لا توازي قيمة ثلاجة واحدة. لقد تطورت الحياة وتعقدت النفوس! العين تشتهي، والقلب يلهف، في حين تبقى اليد مشلولة، فينهد بذلك حيلنا ويهن عظمنا. لجأ أبي لطلب المساعدة من أخواي في الجيش، فبدآ يرسلان إليه بعض النقود أول كل شهر.
ومع مرور الوقت، لم يسلم أخواي من إلحاح والدتي على الزواج. لقد قامت باختيار عروسين جميلتين من المدشر لمعرفتها بعائلتيهما وأصليهما. بدأت الحياة في الأول حلوة وجميلة لتنقلب في النهاية إلى نار تلتهم الأخضر واليابس.
لم يمر يوم واحد دون شجار وبكاء ونواح. كانت إحدى زوجات أخي تتحفنا بسمفونيتها كلما اندلع شجار بينها وبين أمي وأخواتي: “إوا صافي! راجلي يخدم فالصحراء ويعلف الرملة، ونا نخدم فالدار، ونتوم تاخدوا الفلوس وتتبرعوا. والله غير اجي وما شافلي شي دار بين الناس حتى يطلقني!”
تعسرت الحياة بيننا، وجاء أخواي وأخذا زوجتيهما وأولادهما وهاجرا إلى المدينة تاركين وراءهم بيتا كبيرا شبه فارغ، وقد كان بالأمس القريب ينبض بالحياة ويعج بالخلائق. بعد ذلك تزوجت أخواتي، وهاجر أخي الأصغر إلى المدينة بحثا عن أي عمل يمكنه من تحقيق استقلاليته الاقتصادية، والتمتع بحياته الخاصة!! لقد أصبح الكل ينشد الحياة الخاصة ويلهف وراء رغبات لا حدود لها في عالم يغري بالاستهلاك والعيش الرغيد عالم عصري يصعب على كل نفس مقاومة ما يقدمه لها من منتوجات ساحرة! كان والدي كلما ضاقت به الحياة يقول لي : ـ راه الربا و لهبا ناض فالدنيا يا وليدي يا المختار. مابقاو كايكفيو فلوس الله يحضر السلامة!!
وكعادتها ، بدأت أمي تزن على أذناي بشأن الزواج. لم تترك اسما من أسماء فتيات المدشر إلا وذكرته لي. بقيت تردد موالها المعتاد على مسمعي حتى حفظته عن ظهر قلب: “الله يرضي عليك أوليدي. أنا بغيت مانموت حتى نشوفك مرتاح مع مراتك ووليداتك!”
ثم أجيبها في تذمر: “الله يهديك آالواليدة. آش قضاو ولادك اللوالا بهاد الزواج؟ ياك كلهم مشاو وسمحوا فيك وفالواليد. تصوري لو كان ماكنت أنا معاكم..!!”
إنها الحقيقة التي لا غبار عليها، فتخيلوا معي لو لم أكن موجودا في حياة والداي، ماذا كان سيحصل لهما؟ كيف كانا سيعيشان؟ من كان سيهتم بهما وبطلباتهما خصوصا وهما في طريقهما نحو الشيخوخة والعجز؟ ألا يصح للمرء أن يبر بوالديه في هذا الزمان إلا إذا كان ممن يحترف البطالة؟!! انتهى