القول الفصل في جواز أو منع تحية المسجد أثناء صعود الخطيب إلى المنبر أو في استراحته بين الخطبتين

بقلم الشيخ الفقيه المقرئ عبد اللطيف بوعلام.
تنبيه تذكيري بعتاب أخوي:
” أرجو من الذين يعيبون علي الإطالة ألا يقرؤوا مقالاتي هاته التي أتعب فيها الساعات المديدة لتحبيكها قصد الإحاطة النسبية بالموضوع إشفاء لغليل مناشدي ومُحصّلي الفائدة المرجوة ضبطا للمسار التنويري وتقويما للمسير الديني التوعوي، وشكرا.. “.
مِمّا لا شك فيه أن تحية المسجد عند صعود الإمام للخطبة من المسائل الخلافية بين الأئمة..
فمنهم من يرى الجواز الذي يصل إلى الوجوب معتمدا على عموم الأمر بالتحية في قوله ﷺ: ” إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلاَ يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ”، وعلى أمره للداخل وهو يخطب أن يقوم فيصلي ركعتين”.
لكن السادة الحنفية والمالكية يقولون إذا دخل المسجد والخطيب فوق المنبر فلا يصليهامستدلين بالحديث الصحيح الذي أورده الإمام أبو داود في سُننه من: أَنَّ رَجُلًا، جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: “اِجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ، وَآنَيْتَ”: بمعنى تأخرت وأبطأت، وشرعت في تخطي الرقاب لتلتحق بالصفوف الأولى، فسببت بذلك إذاية مباشرة لإخوانك المؤمنين، وهذه العادة لم تنقطع ممارسة قبحها لحد الآن، لكن بالمقابل، فهناك من يتعمد الجلوس في الصفوف المتأخرة ليفر هاربا بحذائه إثر سماعه لميم عليكم من فراغ الإمام بالسلام، فتبقى الصفوف مخرومة بالفراغات، ومتقطعة في معظم الصلوات الخمس المفروضة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. وعضدوا الحادثة المذكورة معللين بأن سماع الخطبة واجب، والانشغال عن الخطبة مكروه، فلذلك منعوا التَّنَفُّل حال الخطبة.
أما السادة الشافعية والحنابلة، فوقفوا موقفا وسطيا بجواز التنفل سُنَّة خفيفة حالة جلوس الإمام فوق المنبر استغلالا لهذا الظرف قبل شروعه في الخطبة لأنها صلاة ذات سبب، وعززوا قولهم بالحديث الصحيح الذي رواه البخاري: “جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: أَصَلَّيْتَ يَا فُلاَنُ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ “.
وَرَدَّ المالكية والأحناف على هذا الحديث بالقول من أن هذا الرجل كان فقير الحال، وأراد من الصحابة أن يعرفوا حاله فيتصدقوا عليه دون أن يحرجه، ودل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم غير موضوع خطبته إلى الحث على الصدقة.
والذي نرجحه _ بحول الله وقوته اختيارا وليس جزما _ ودون تعصب مذهبي، ودرءا للفتنة المُثَارَة حول هذه المسألة ما قرره الإمام مالك الذي منع هذه التحية عند خروج الإمام، فبالأحرى أثناء خطبتي الجمعة، ويحفظ تباعه قاعدة مطردة في الباب بقولهم:
” خُرُوجُ الْإِمَامِ يَقْطَعُ الصَّلاَةَ، وَخُطْبَتُهُ تَمْنَعُ الْكَلاَمَ ” تفعيلا للحديث الدارج على الألسن حفظا من رواية الحديث المُعاد كل جمعة تذكيرا للمصلين بالسمع والإنصات.. فالشاهد عندنا هو جزئية قوله صلى الله عليه وسلم: “.. وَمَنْ لَغَا فَلاَ جُمُعَةَ لَهُ”. وهذا القول بالمنع هوالأقرب للصواب، وذلك مرجوح تَبَعاً للأسباب الآتية: فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من أنه أمر الداخل إلى المسجد أثناء الخطبتين بالجلوس ولم يأمره بالصلاة “. ولو كانت مرغَّب فيها لأمره بها.
ثم إنه قد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قوله: “إِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ فَلاَ صَلاَةَ وَلاَ كَلاَمَ”.ثم إن التحية تدخل في باب الفضائل، فلا يجوز الاشتغال بها عن واجب الاستماع للخطبتين؛ إعمالا للقاعدة الفقهية المتفق عليها:
“إِذَا تَزَاحَمَتْ مَصْلَحَتَانِ جُلِبَ أَعْلاَهُمَا “.
ناهيكم على أن قاعدة سد الذرائع تؤيد مذهب مالك خصوصا في هذا الزمن، حيث أصبح بعض المتنطعين يتعمد التأخر عن التبكير لصلاة الجمعة، مخالفا للهدي النبوي، ثم يتذرع بالتحية إلى الإِعراض عن الاستماع إلى الخطيب وإحراجه والتشويش على سكينة المكان بانشغال الذين من ورائه بحركاته، ولا يخفى ما في ذلك من فساد كبير وإثم عظيم؛ لسوء النية ومناقضة قصد الشارع الحكيم، ومن ناقض قصده قصد الشارع بطل عمله…
هذا؛ ولقد ساهم بعض المُصلّين المنتسبين للمذهب المالكي في تضخيم حِرمة التحية أثناء الخطبة، فثارت من حين لآخر مشاكل بسبب ذلك إلى حد التعنيف والخصام في بعض المساجد. حيثُ يُصِرُّ بعض شبابنا المُحبِّين للسُّنّة على صلاة تحية المسجد والإمام يخطبُ على المنبر يوم الجمعة تفعيلا لحادثة سُليك الغطفاني وإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَلْيَتَجَوَّزْفِيهِمَا». مع عِلْمِهِم وتَيَقُّنِهم بكراهتها في المذهب المالكي! وكان الأجدر الأَوْلى والأليق بهم تركها اجتناباً للفتنة وتأليفاً للقلوب، حتى قيل: «مِنَ السُّنَّةِ -أحياناً- تَرْكُ السُّنَّةِ»، وهذه العبارة منسوبة للإمام ابن تيمية رحمه الله حيث قال في (القواعد النورانية(47): «وَيُسْتَحَبُّ لِلرّجلِ أن يقصد إلى تأليف هذه القلوب بترك هذه المستحبات لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا، كما ترك النبي ﷺ تغيير بناء البيت، لِمَا رأى في إبقائه من تأليف القلوب».
لكن بالمقابل يتعصّبُ بعض الخطباء للراجح اشتهارا في مذهبنا المالكي، فيصيحون بالشّاب الذي يُصلّي تحية المسجد خلال الجمعة وخاصة في فاصل الخطبتين ليوبّخوه على صنيعه، وهذا خطأ فادح لا يليق بالشّيوخ والدعاة، باعتبار أن جمهور من العلماء قالوا باستحبابها، ولأنها مسألة خلافية حتى في المذهب المالكي، فمنهم من روى الكراهة وهو القول الذي شهره ابن القاسم اعتمادا على ما هو مبثوث بدقة في قوله بالمدونة (274/2):
« ومَنْ دخل بعدما خرج الإمام فٓلْيجلس ولا يركع، وإن دخل فخرج الإمام قبل أن يفتتح هو الصلاة فلْيقعُد ولا يُصلّي، قال ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: أخبرني ثعلبة بن أبي مالك القُرظي أنّ “جلوس الإمام على المنبر يقطع الصلاة، وأنّ كلامه يقطع الكلام”».
وعلى هذا الرأي عوّل العلَّامة الإمام الشيخ خليل في مختصره، حيث قال عاطفاً على المُحرّمات الخاصةبالجمعة:
« وابتداء صلاة بخروجه وإن للدّاخل ».
لكن هناك رأي ثانٍ في المذهب، يُجيزُ تحية المسجد والإمام يخطُبُ يوم الجُمعة، وهذا الرأي نقله النفراوي عن بعض فقهاء المالكية في (الفواكه الدواني 412/1)، حيث قال: « ما ذكرناه من حِرمة الصلاة بعد خروج الخطيب ولو للدّاخل، هو مشهور المذهب، ومقابله جواز إحرامه ولو في حال الخُطبة، وعليه السيوري “. قال العلاّمة ابن أبي جمرة الأندلسي المالكي رحمه الله في (بهجة النفوس 58/2): « وقد خرّج مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: “مَنْ دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ”. فإن صحّ هذا فهو نصٌّ في الباب لا يحتمل التأويل». بل رجّح الشيخ عبد الحي بن الصدّيق المغربي المالكي في عصرنا الحالي استحباب تحية المسجد يوم الجمعة، وصنّف رسالةً طريفة عنونها ب: «تبيين المدارك لرجحان سُنّية تحية المسجد وقت خُطبة الجُمعة في مذهب مالك». وتوسط حافظ بن عبد البرّ رحمه الله في ذلك، فذهب إلى “التخيير” بين صلاتها وعدمها، حيث قال في (الاستذكار: 55/5): « إِنْ شَاءَ رَكَعَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَرْكَعْ».
ونصيحتي الأخوية لشبابنا الحريص على الدين تطبيقا لسنة النبي الأمين ثبّتهم الله على الدرب بالحرص واليقين أن يتخلوا ويتركوا تحية المسجد خاصة إذا جاءوا مُتأخّرين يوم الجمعة والإمام على المنبر، فبلدنا المغرب مالكي المذهب، والقول الراجح المشهور فيه هو الكراهة..
ووصيتي أسوقها تذكيرا لخطبائنا الكرام – حفظهم الله ورعاهم وثبتهم على الذود عن حياض المذهب – أن يغضُّوا الطّرف عمّن صلى هذه التحية في وقت الكراهة لأن هُناك مِن كبار علمائنا المالكية مَنْ أجاز تحية المسجد خلال الجمعة، بل استحبّها مثل الجمهور..
إذا فلا مجال عندنا للتعصّب، والتضييق على النّاس، وإثارة البلابل. بل الواجب يقتضي منا احترام مراعاة التنوّع ما دام الأمر فيه سَعة، والمسألة مُختلَف فيها بين المذاهب والأئمة العظماء، ولكل حُجيته وسنده في الترجيح، والله الموفق للصواب والهادي إلى سواء السبيل.
ترقبوا في الأسبوع المقبل مقالا حول تحية المسجد بعد راتبة صلاة الفجر… وفقكم الله في مسعاكم وسدد خطاكم.