شارك الدكتور محمد ازلماط بن ميمون بموضوع موسوم ب دور البحث العلمي في نشر اللغة العربية في المؤتمر الدولي للبحث العلمي في أقسام اللغة العربية للناطقين بها وبغيرها الذي نظمته الجمعية الدولية لأقسام العربية، أيام 2و3و4 من الشهر الجاري وفي هذا المضمار سنقدم ملخصا لمداخلته وهذا نصه:
تقديم
يعد البحث العلمي قوة ناعمة وذكية يسهم في خدمة اللغة العربية، والارتقاء بها، لاعتباره المؤشر القياسي الذي يحدد درجات التقدم والتفاوت اللغوي في المعرفة والثقافة وفي نموها التنموي المرتبط بالبنيات الاقتصادية والتكنولوجية داخل المجتمعات الإنسانية.
وفي هذا المضمار غذا للغة العربية دورا استراتيجيا في تشكيل البحوث العلمية، وفي تكوين المجتمعات، لذا تعتبر النواة الاستراتيجية في السياسة والتخطيط اللغوي، والعنصر الفعال في تحقيق التنمية، وفي ذات الوقت أصبحت قراءة مستقبل اللغات، وانتشارها، وبقائها، والتوقع بأزماتها، ومتغيراتها، والاستعداد لها وتطوير آليات تنميتها في جميع المجالات تتأسس على استراتيجيات بحوث علمية معمقة، والدراسات الاستشرافية المستقبلية، بالاعتماد على أساليب علم المستقبل، ومناهج البحث العلمي التي تعد مفاتيح وصف وتحليل المعرفة، وأيضا القادرة على إنتاجها وإحداث قوة لاستدامة اللغة لاعتبارها محرك أساسي في كافة المجالات الثقافية والمعرفية والاقتصادية، لكونها تحافظ على استمراريتها وهيمنتها لتحتل الصدارة فيما بين اللغات، وهي مقياس لتحقيق الأمن اللغوي، والتعايش فيما بين التنوع اللغوي
الهدف من الدراسة
ترمي اللغة العربية إلى تطوير أنساقها وأبنيتها المعرفية والثقافية والاقتصادية والتنموية عبر البحث العلمي الذي يعد آلية متميزة المرتبطة بالتحولات التي تطرأ في ميكنيزمات اللغة، والتي تشكل وعي مجتمعاتها وتصف واقعها وترصد سلوك أفرادها. وتعكس تفكيرهم وحضارتهم وتطورهم. لاعتبارها وسيلة للفكر، وتعد إحدى قنوات التواصل لأنها أكثر وسائط الأداء الاجتماعي المتداولة، فبواسطتها يتم تدوين إنتاج الأمة الثقافي والمعرفي والتاريخي، ويمكن للأمة أن تصوغ من خلالها مقومات، وخصائص وجودها وكينونتها. فالهدف من هذه الدراسة ابراز قوة اللغة العربية الكامنة في أبعادها الروحية والمعرفية، وتفاعلها القوي مع الثقافة والحضارة الانسانية لتعزيز حضورها ومكانتها بين اللغات في العالم، وضمان استمراريتها، ونشرها الذي هو مرهون بالتقدم العلمي المساهم في انتاج المعرفة التي أصبحت النواة الأساسية لاقتصاد المجتمعات، لكون أن البحث العلمي أضحى المؤثر والفاعل في التنمية، لأنه يعد أحد المرتكزات في العملية التعليمية للغات في التعليم العالي على مستوى التفكير الإبداعي والنقدي، والتواصل والتفاعل العلمي من أجل التأليف والنشر العلمي للغات سيما اللغة العربية
الجديد في الإسهام العلمي
وفي هذا الاطار تسعى هذه الدراسة إلى الكشف عن كيف يسهم البحث العلمي في خدمة اللغة العربية من خلال ما يتم إنجازه من مشاريع بحثية تساعد في اكتساب معرفة ومهارات حياتية جديدتين؛ مع مواكبة التطورات والتحولات التي تعرفها المجتمعات العالمية في ظل الثورة الرقمية؛ مما يستدعي خلق التعاون والتنسيق والشراكة بين السلطات العمومية والمؤسسات التعليم العالي، وفاعلي القطاع الصناعي والانتاجي عير رؤية استراتيجية تدرك أهمية البحث العلمي في تطوير سياسات اللغوية، والتي لا تقتصر بحوثه على الابداع والابتكار؛ وإنما يهتم أيضا بوضع تصورات واستراتيجيات لحل المشاكل والنوازل والأزمات التي تحل باللغة العربية، وتطوير آليات اكتساب مهارات جديدة لتحويلها من الجمود إلى الحركة ونقلها إلى مواكبة مجتمع المعرفة.
أهمية البحث
وإن أهمية البحث العلمي في خدمة اللغة العربية ونشرها استدعت طرح إشكالية مفادها، كيف يمكن للبحث العلمي أن يكون فرصة لخدمة العربية ونشرها؟ أو بعبارة أخرى كيف يمكن الاستفادة من المناهج المتعددة والمتنوعة للبحث العلمي التي أفرزت معلومات ورؤى هائلة قصد خدمة اللغة العربية؟
ولفك هذه الإشكالية تم استخدام المنهج التحليل الوصفي، والذي من خلاله تم التطرق إلى تحديد الاطار المفاهيمي لمكونات بنية العنوان، ثم ابراز دور البحث العلمي في اللسانيات والعلوم التربية والاجتماعية قصد بناء المجتمع واكتسابه مهارات مستلهمة من مستجدات الثورة الرقمية، وتوضيح قيمة الممارسات المنهجية في البحث العلمي وتأثيرها على اللغة العربية والكشف عن آليات تعزيز دور انتاجية البحث العلمي لنشر اللغة العربية من حيث تحفيز وتمويل البحوث، واحداث جوائز ومجلات علمية محكمة، وتطوير البنيات التحتية للبحث العلمي لنشر اللغة العربية؛ كإحداث المنصات العلمية والمراكز البحثية، واحداث المعاجم اللغوية والاصطلاحية، ودعم أبحاث الدراسات العلمية لنشر اللغة العربية. وتم ايضاح مقومات تجديد النظر في المناهج البحث في قضايا اللغة العربية.
النتائج التحليلية للإشكالية
ونحت هذه الدراسة إلى تعريف مفهوم البحث العلمي بأنه جهد بشري عقلي ينتج الهندسة الذهنية بالدرجة الأولى، ومادي تكميلي منظم تنظيما علميا منهجيا لغرض نشر اللغة العربية وصيانتها من اللحن، وضمان استمراريتها، وتعزيز إنتاج معرفتها أو تدبير تداولها أو وضع استراتيجيات سياسية واضحة الأهداف المحددة الأولويات بخصوص واقع اللغة العربية، وآفاقها المستقبلية في ظل تحديات الثورة الرقمية. وبتأسس البحث العلمي في اللغة العربية على مرتكزات استراتيجية، يمكن رصدها في المرتكز الابستمي والمرتكز التقني ومرتكز بناء المفاهيم وتطوير الفرضيات ومرتكز شكل البحث والكتابة. وإنكل مرتكز داخل البحث العلمي في اللغة يتصف بخصوصيات واختيارات ووظائف، فالمرتكز الابستمي يقوم بتحليل العمليات المعرفية لاستنباط الروح العلميةscientificite، قصد اتخاذ الموقف الابستمي بواسطة منظومة التوضيحية القائمة على الشرح والتوضيح، أو منظومة الفهم المعتمدة على التحليل والتفكيك والتأويل، وإن هذا المرتكز له صلة بمرتكز بناء المفاهيم وتطوير الفرضيات المرتبطة باللغة العربية وظواهرها وقضاياها ومشاكلها وعلاقتها بالمجالات الأخرى كعلاقتها بالبحث العلمي ودوره في نشرها، و هذه العلاقة تتطلب وضع الفرضيات التي هي تخمين علمي يتم قبوله أو رفضه على أساس نتائج الدراسة، ولفهم الفرضية يجب بناء المفاهيم استنادا إلى التعاريف الوصفية والتعاريف التجريبية، والنظرة إلى الفرضية بالموضوعية واستنباط خصائصها وصفاتها وصياغتها في لغة واصفة .
وإن اللغة في علاقتها بالبحث العلمي غدت جزء من الفضاء العام؛ وأسست لنفسها مجتمع البحث العلمي له مجاله ولغته وهويته وباحثيه في ظل “الاطار الوطني يحدد الممارسة العلمية بشكل أساسي تحدد الشركات متعددة الجنسيات فقط سياستها البحثية جزئيًا على أسس أخرى، وهذا وفقًا لمصالحها التي تحكم، في معظم الأوقات، على المدى القصير أو على المدى المتوسط، أهدافها. إن منظمة علمية عابرة للحدود ، بل وعالمية ، لا تظهر حاليًا في شكل بدايات إن الموارد الوطنية هي التي تجعل العلم ممكناً .
مما لا شك فيه أن البحث في اشكالية واقع البحث العلمي في علاقته باللغة العربية ونشرها، يطرح عدة عراقيل ومشاكل من الصعوبة بمكان، وذلك نتيجة للاختلاف في الاستنتاجات التي توصلت إليها بعض الدراسات، والعلة في ذلك التشرذم والتشتت في وجهات النظر من جهة، وتشعب المجالات المعرفية من جهة أخرى، حيث تصعب امكانية الفعل والاقرار. والباحث في هذه الاشكالية يستطيع ان يميز المستويات التالية التي تكبح جماح البحث، مفرزة واقعا مضطربا للبحث العلمي في علاقته باللغة العربية ونشرها بالعالم العربي:
*عدم كفاية الموارد المالية المخصصة للبحث العلمي، وكذلك المعدات والأدوات والمصادر العلمية، وهذا من التهديدات الداخلية للبحث العلمي في مجال اللغة العربية، وكذلك قلة الحوافز لإجراء البحث العلمي، كل هذا يؤدي إلى النتيجة. ضعف الدور البحثي للجامعات والمؤسسات التعليمية العربية ، ونقص وتقلص إنتاجية أعضاء هيئة التدريس، وكذلك ضحالة الفكر وتكرار الافتقار إلى الرؤية.
*معاناة نظام البحث العلمي من تدن وضعف مؤسساته البحثية، وابتعاد المخرجات النهائية للنظام التعليم العالي عن مستويات التفكير العليا، وغياب الاستراتيجية التدريسية القائمة على الاستقطاب والبحث وحل المشكلات واتخاذ القرار، فضلا عما أظهرته البحوث من ارتفاع مستويات التحصيل مع قلة المشاكل السلوكية للطلاب كما في الصين وسنغافورة وماليزيا وفنلدا والبرازيل مما جعل نظام التعليم العالي يحد من دافعية وعزيمة الطلاب للبحث العلمي والتقصي والاستكشاف والاقتصار على ثقافة الذاكرة مما يغلف البحث العلمي بنتائج سلبية.
*غياب التنسيق بين هيئات التخطيط والتنفيذ المعنية بالبحوث العلمية، وعدم وجود سياسة واضحة للبحث العلمي في علاقته باللغة العربية، وعدم توفر على شبكة وقاعدة بيانات بحثية. وضعف التفاعل بين البحث العلمي والقطاع الخاص. وعدم فعالية نتائج البحث العلمي بخصوص اللغة العربية في حل المشكلات التعليمية والسلوكية، ثم انطلاق البحوث من صفة ذاتية في المقام الأول. وعزوف الباحثين عن البحوث الميدانية والمرتبطة بمشكلات الصفوف الدراسية. وتدني مستوى الباحثين في اللغة العربية غالبا في استخدام الإنترنت في البحث العلمي وعدم تلقيهم التدريب المناسب على استخدام الإنترنت وقواعد البيانات. وهيمنة البحوث الوصفية بأدواتها الكمية، ولاسيما الاستبانات والاستفتاءات.
*لا تراعي السياسة اللغوية مبادئ البحث العلمي المرتبطة باللغة العربية التي تمثل العامل الأساسي في صناعة القرار، فالتشريع اللغوي يتلازم مع البحث العلمي، وينصهران لتعزيز الهوية، والحفاظ على استمرارية اللغة العربية، ومن هنا تتضح الفجوة القائمة بين صناع القرار السياسي، وبين البحث العلمي، نظرا لغياب الوعي بوجود تفاعل بين السياسة اللغوية، والبحث العلمي، لكون أن حضور الوعي السياسي لا يتأتى إلا من خلال الوعي اللغوي عبر الوعي بالبحث العلمي، فالقائمون على مصير الشعوب العربية، كانوا بعيدين عن استيعاب الخصوصية العربية، تلك المتمثلة في أن العلاقة بين اللغة والبحث العلمي ليست مبحثا ثقافيا انتروبولوجيا كما عند غيرهم، وإنما هي مبحث سياسي استراتيجي . لأن قوة اللغة تستمد من قوة البحوث العلمية الناعمة والذكية.
ورغم ذلك إن النشر العلمي اتخذ بعدا متميزا في اطار البحث العلمي، لكونه يريد ايصال الرسالة المعرفية العلمية التي ينتجها الباحث للمتلقي الذي يستقبل الرسالة ويستهلكها، إن عملية إيصال الانتاج المعرفي العلمي من الباحث إلى المستقبل وفق نظريات الاتصال والنشر العلمي هي المحصلة النهائية للبحث العلمي، والبوابة الرئيسية لنشر العلم والمعرفة، ومصدر أساسي للحضارة الإنسانية، حيث هو الهيكل الأساسي لإنشاء التعليم وتطويره في جميع مراحله، ويعرف أيضًا بأنه وسيلة فعالة لتوفير مخرجات فكرية رصينة من خلال القنوات الخاصة، ومعظمها معترف به ومعترف به جيدًا في الدوريات العلمية من أجل ضمان الحماية الفكرية من القرصنة لهذا المنتج ثم المنفعة العلمية المنشودة.
إن استمرارية وديمومة اللغة العربية تقاس بصناعة نشرها بواسطة البحث العلمي مستندة إلى صناعة الكتاب الذي يعد الوسيلة الأساسية للمعرفة العلمية والتعليم، لكونه عبارة عن وعاء شامل لجميع مكونات البحث العلمي ونتائجه. وإن الكتاب يتضمن في صناعته العناصر المتمثلة في التأليف، وهو ما يؤديه المؤلف الباحث، وهو المسؤول عن المادة العلمية. ثم التصنيع الذي يحول المادة العلمية للباحث إلى الطباعة بالحروف العربية قابلة للتداول بين الناس في شكل نسخ متعددة. ومن ثمة يتم الانتقال إلى عملية التوزيع بواسطة الموزع. يهدف إلى توصيل النسخ المطبوعة للمستهلكين أو السوق المتاح للكتاب. وإن عناصر التأليف والتصنيع والتوزيع تتشكل وتتفاعل في ما بينها لتحقيق صناعة النشر التي لا تكتمل إلا بوجود عنصر الناشر الذي يتلقى العمل من الباحث ، ويقوم بتصميم الكتاب وعرضه وإنتاجه قبل دفع ثمنه إلى المطبعة ، التي تحوله إلى نسخ ورقية ، ويدفع الناشر جميع التكاليف ، ثم يدفع للبائع أو الموزع الكتاب ؛ يقوم الناشر بعد ذلك بخصم هامش ربح الموزع وتحقيق ربح ، وهذا ما يسمى صناعة الطباعة
خلاصة
رغم التحديات والصعاب، ساهم البحث العلمي في نشر اللغة العربية وتطويرها والارتقاء بها، وترتب عنه تجديد في بنياتها، وأنساقها، وحضوره في المناهج التي كشفت خصائص اللغة العربية التي مكنتها من الاستمرارية والديمومة؛ مع ضمان لنفسها حضورا ضمن النشاط اللغوي، وتوصيفها، وربط دراستها بالتراث واحيائه على ضوء النظريات والمناهج الغربية مع أخذ بعين الاعتبار خصائص اللغة العربية ومميزاتها عن اللغات الأخرى، وذلك من أجل تيسيرها ونشرها في كل المجالات المعرفية وجعلها لغة التواصل والتداول بواسطة السرد الذي حل محل الشعر، مساهما في احداث قصيدة النثر، وأصبحا( السرد وقصيدة النثر) مادة نواتية للبحث العلمي لتطبيق عليها آلياته واجراءاته المنهجية لإبراز مكامن جاذبيتها التي تحدث التذوق واللذة. وإن نشر اللغة العربية مرتبط بنوع الأبحاث التي يقوم بها البحث العلمي من هندسيات ذهنية، واستراتيجيات فكرية، وآليات استدلالية قائمة على عرض المعلومات والبيانات، أو استقرائية تعتمد على التعامل مع متغيرات اللغة العربية وقضاياها مع تحديد المحاور العامة من خلال التفاصيل، أو من خلال وصف الظواهر اللغوية العربية، وأبعادها وتحليلها. وعلى هذا الأساس، يعد البحث العلمي سلوكا انسانيا يؤثر في نشر اللغة العربية من حيث الابستمية التنظيرية، والمناهج التطبيقية للمفاهيم والمبادئ والوسائل للتعامل مع اللغة العربية ونشرها