
رغم الخطابات الرسمية المتكررة حول إصلاح المدرسة العمومية، ومجهودات الدولة لإرساء تعليم متكافئ عبر برامج مثل “مدارس الريادة”، كشفت نتائج الباكالوريا لسنة 2025 مجددًا عن واقع مقلق: التعليم الخصوصي يواصل حصد المراتب الأولى، وتأكيد تفوقه الرقمي والمعدلاتي، بينما يرزح التعليم العمومي تحت وطأة تحديات بنيوية مزمنة.
وزارة التربية الوطنية أعلنت أن نسبة النجاح الإجمالية في الدورة العادية لامتحانات الباكالوريا بلغت 66.8 في المائة. ورغم أن النسبة تشمل تلاميذ القطاعين العمومي والخصوصي، إلا أن المؤشرات الميدانية، وخصوصًا من حيث معدلات الامتياز، تُظهر أن كفة النتائج تميل مجددًا لصالح التعليم الخصوصي. فقد جاءت أعلى المعدلات، مرة أخرى، من تلميذات وتلاميذ مؤسسات خصوصية، وسط استمرار الجدل حول “تضخيم نقط المراقبة المستمرة”، التي تمنح المؤسسات الخاصة هامشًا واسعًا في التأثير على المعدل العام.
لكن التفوق العددي للتعليم الخصوصي لا يُترجم بالضرورة إلى تفوق تربوي حقيقي، بل يعكس في جزء كبير منه فجوة في شروط التعليم بين القطاعين. ففي الوقت الذي يستفيد تلاميذ المدارس الخصوصية من أقسام محدودة العدد، وبرامج دعم إضافية، وبنية تعليمية أكثر تنظيمًا ومرونة، يواجه تلاميذ العمومي اكتظاظًا خانقًا، ونقصًا في الموارد، وتفاوتًا كبيرًا في جودة التكوين الأساسي للمدرّسين.
أما ما يُسمى ببرنامج “مدارس الريادة”، والذي أطلقته الوزارة قبل سنتين كأحد أعمدة إصلاح التعليم العمومي، فقد أصبح اليوم محلّ تساؤل واسع. إذ لم تُظهر نتائجه الميدانية أثرًا ملموسًا على تحسين أداء التلاميذ في الامتحانات الإشهادية أو في اختبارات الكفايات الأساسية. ورغم التسويق المكثف له، إلا أن واقعه في الأقسام اليومية لم يترجم إلى تحسّن حقيقي، وهو ما يدفع كثيرًا من المهتمين إلى اعتبار هذا البرنامج مجرد عنوان بلا مضمون، أو على الأقل مبادرة ناقصة لم ترتقِ إلى مستوى تطلعات الأسر المغربية.
من جهة أخرى، يثير هذا التفوق المتكرر للخصوصي في امتحانات الباكالوريا تساؤلات حقيقية حول عدالة النظام التربوي. فحين تصبح النتيجة النهائية رهينة بنقطة المراقبة المستمرة التي تسندها المؤسسة، دون رقابة خارجية كافية، فإن مصداقية الشهادة الوطنية نفسها تصبح موضوع شك، وتفقد الباكالوريا معناها كآلية إنصاف وتقييم موحدة.
وما يُقلق أكثر هو أن هذه الفوارق، وإن بدت في ظاهرها “بيداغوجية”، إلا أنها في عمقها اجتماعية بالأساس. فالتعليم الخصوصي ليس متاحًا للجميع، بل لفئة قادرة على دفع تكاليفه. وبالتالي، فإن ما يبدو تفوقًا تربويًا، هو في جوهره انعكاس لتفاوت طبقي صارخ، يجعل المدرسة المغربية أداة لإعادة إنتاج الفوارق بدل ردمها.
في المحصلة، نتائج الباكالوريا لسنة 2025 لم تفاجئ المتتبعين، لكنها طرحت مجددًا السؤال الجوهري: إلى متى سيبقى التعليم العمومي في موقع الدفاع، والتبرير، والتجريب؟ وأي مشروع وطني يمكن أن يُبنى على مدرسة لا تضمن لأبنائها حدًا أدنى من العدالة التربوية؟ وهل يُعقل أن يستمر رهان الإصلاح قائمًا على تجريب البرامج في العمومي، بينما يُترك الخصوصي ليصنع مجده بعيدًا عن أي مراقبة حقيقية أو محاسبة شفافة؟
الجواب على هذه الأسئلة لا يوجد فقط في المقررات، بل في الإرادة السياسية الحقيقية لوضع التعليم في صدارة الأولويات الوطنية، ليس كقطاع اجتماعي فقط، بل كأمن قومي ورافعة تنمية لا يمكن تأجيلها أكثر.