
تحرير: يوسف المسكين
عندما نتأمل مسار روجيه غارودي، ندرك أننا أمام مفكر عاش التجربة الفكرية في أقصى تجلياتها: من الماركسية الصارمة، التي ترى المادة أصلا لكل شيء، إلى المسيحية كبحث عن الروح، ثم إلى الإسلام كإطار معرفي وأخلاقي متكامل. هذه الرحلة لم تكن نزهة أيديولوجية، بل كانت مسارا من الجدل العميق، حيث تختبر الأفكار وتمحص بالبرهان قبل أن تتخذ أي موقف نهائي.
غارودي، في مرحلته الماركسية، كان من أشد النقاد للدين كمؤسسة، لكنه لم ينزلق إلى مستوى ازدراء المقدسات أو الاستهزاء بالله. لم يكن ذلك بدافع الخوف الاجتماعي أو المجاملة، بل من قناعة فلسفية راسخة بأن الدين، حتى لو اختلف معه فكريا، يمثل في حياة الملايين مصدرا للمعنى والكرامة الإنسانية. كان يعرف أن تحطيم المعنى في حياة الناس عبر السخرية لا ينتج وعيا، بل يولد ردود فعل دفاعية تعزز الجمود.
هنا بالضبط يبرز التباين الفادح مع ابتسام لشكر. فهي لم تقدم أي نظرية معرفية، ولم تعرف بعمل فلسفي أو كتاب جاد، ولم تخض نقاشا مؤسسا على حجج عقلية أو تأصيل معرفي. اختارت طريقا مختصرا نحو الأضواء: ارتداء قميص يتضمن عبارات مسيئة للذات الإلهية، وإرفاقه بتدوينة مستفزة. في ميزان الفكر، هذا السلوك ليس تمردا تحرريا، بل استعراضا شعبويا يقوم على استفزاز الأغلبية دون تقديم بديل معرفي.
حتى في قلب المادية الجدلية، وهي فلسفة صدامية بطبيعتها، نجد أن النقاش مع الدين كان يظل في إطار نقد البنية الاجتماعية والسياسية التي يستخدمها، لا في إهانة المؤمنين أو ازدراء معتقداتهم بشكل فج. كارل ماركس نفسه، رغم عبارته الشهيرة عن الدين كـ”أفيون الشعوب”، وضع نقده في سياق تحليلي عميق، يربط الظاهرة الدينية بالبنية الاقتصادية والطبقية، دون أن يحول الخلاف الفكري إلى إساءة مباشرة للذات الإلهية.
غارودي نفسه اكتشف مع مرور الزمن أن اختزال الإنسان في بعده المادي-الإنتاجي يفقر النظرية ويجعلها عاجزة عن الإجابة على أسئلة المعنى والغاية. فبدأ يبحث عن نموذج معرفي يجمع بين العقل والوحي، بين الواقع الملموس والأفق الغيبي. هذا البحث الجاد هو الذي قاده إلى الإسلام، حيث وجد أن مصدر المعرفة مزدوج: الحس والعقل لإدراك العالم المشهود، والوحي لإدراك الغيب والقيم المطلقة.
هذه الرؤية القرآنية حررت غارودي من أسر الحتمية المادية، وأعطته أفقا يجعل المعرفة مرتبطة بالعدل والأخلاق، لا بالضرورة الميكانيكية للتاريخ وحده. بينما الخطاب الذي تتبناه لشكر يفتقر تماما لأي بعد أخلاقي أو معرفي، إذ يقوم على استفزاز بلا مشروع، وصخب بلا مضمون، وكأن القيمة الفكرية تقاس بعدد الأشخاص الذين تستفزهم، لا بعمق الأفكار التي تقدمها.
والأخطر أن هذا النمط من “الإلحاد الاستفزازي” لا يخدم الحرية ولا يحرر العقول، بل يعيد إنتاج الصورة النمطية عن الإلحاد كموقف عدائي عشوائي، بدل أن يكون بحثًا عقلانيا عن الحقيقة. إن غياب أي مشروع معرفي عند لشكر يجعلها أقرب إلى “ناشطة إعلامية” تبحث عن التريند، لا إلى مفكرة قادرة على صياغة رؤية نقدية جادة.
إذا كان غارودي قد تجاوز المادية إلى أفق الوحي عبر جسر طويل من التجربة الفكرية، فإن ابتسام لشكر تحاول القفز مباشرة إلى خانة “المفكرة الجريئة” دون أن تمشي خطوة واحدة في دروب المعرفة. والنتيجة: بدل أن تسهم في توسيع فضاء النقاش، تغلقه بردود فعل غاضبة تحول الحوار الفكري إلى مواجهة عبثية بين استفزاز رخيص ودفاع انفعالي.
الخلاصة: ما فعلته لشكر ليس حرية فكرية، بل خيانة للفكر نفسه. الحرية الحقيقية تتطلب شجاعة البحث، وعمق الحجة، واحترام الإنسان في كليته؛ عقله، روحه، ومشاعره. وهذا ما فهمه روجيه غارودي وهو يودع المادية إلى غير رجعة، وما لم تفهمه لشكر وهي تودع الفكر قبل أن تعرفه.
