
عبد السلام انويكًة
كيان ترابي هام ووعاء حياة وانشطة وأنظمة منذ القدم، كذا بناء معقد ومشاهد هو الجبل ببوادي جهة فاس مكناس. ومن ثمة ما يحتويه هذا الكيان الترابي من موارد مادية ورمزية لحقتها لا شك في ذلك متغيرات عدة مع الزمن. ولعل جهة فاس مكناس بمرتفعات جبلية شامخة ممتدة تتقاسمها قمم شاهدة هنا وهناك، مع ما يسجل من معالم ذاكرة وأثر انسان ضمن فعل ونشأة كيانات ومن ثمة تفاعل وتواصل وأحداث وتطورات. ورغم ما هي عليه عموما من بروز مجالي، لم تكن جبال الجهة بما ينبغي من التفات وعناية بحثية معبرة اللهم ما هناك من اشارات وقراءات عن زمن الحماية ضمن تقارير استكشافية، مع أهمية الاشارة لِما أحيط به جبل جهة فاس مكناس عموما خلال هذه الفترة، من سياسة استعمارية مجالية عملت جاهدة على إحكام سيطرتها عليه، وضبط علاقته بمحيطه مع حفظ أنماط وتركيبة عيش أهاليه فضلاً عن ضرب حصار عليه باعتباره مصدر ردود فعل.
وإذا كان قد تم استحضار كيان الجبل ضمن وسط قروي منذ الاستقلال من خلال ما حصل من سياسات ترابية وخيارات، فنتائج ما تم تسطيره على الورق لا تزال بغير ما كان منشوداً على أرض واقع. ومن هنا أهمية ليس فقط الوقوف على مساحة ما هناك من اختلال وتباين بالجهة، بل طرح الممكن كمنصف انمائي لفائدة هذا الجبل، الذي يقوم على خصوصية معينة ومؤهلات ومتطلبات وواقع معيش. وبقدر ما الجبل بجهة فاس مكناس بإمتداد مجالي واسع وواقع حال على درجة من سؤال واكراه وتعقيد، بقدر ما هو نِتاج سبل عمل تمت بها منهجَتُه وتنظيمه وتأطيره وتدبير ترابه، وعليه، ما يحتاج اليه من اعادة مساءلة ضمن سياق نماء مجالي محلي واستراتيجية تدخل جهوية. وعندما نقول ما تم اعتماده من سبل تدبير الجبل في الماضي، نعني بذلك ما هو استراتيجي كقراءات واختيارات وحدودِ وقعٍ رسَمَها لتنمية محلية بهذا المجال.
ويتبين أنه ما أحوج الجبل بجهة فاس مكناس لرأي ومقترح وظيفي انمائي، كآلية عمل تشاركي وتقاسم أدوار لإنجاح خيارات تخص الوسط القروي بالجهة ككل. وكثيرة هي الأسئلة التي لا تزال عالقة حول سبل نماء المغرب بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال، بل تبقى الاسئلة المرتبطة بالوسط القروي اكثر الحاحاً لعوامل موضوعية. وقد يكون انخراط الجميع كل من موقعه بما في ذلك الفعل الجمعوي، بأثر في بلورة مشاريع انمائية رافعة حيوية ضمن اقتصاد اجتماعي بطبيعة جهوية، إن هو تأسس على ما ينبغي من تأطير للنهوض ليس فقط بالجبل بل ببادية الجهة كمجال لا يزال بِنْيَةً بتركيب معقد.
ويتبين أيضا أن سياسة تدبير التراب منذ استقلال البلاد غابت عنها الى حد ما مكانة الجبل في المجال، وغاب عنها استشراف حاجات هذا المجال البشرية وما يحتويه من عمق وموارد بحاجة لتأهيل وإعداد. وعندما نتحدث عن الجبل واقتصاد الجبل تحضر بادية المغرب عموما وبادية جهة فاس مكناس بمشاهد لا متوازنة ولا مسايرة لما هناك من تحولات. واقع لا شك أنه نِتاج سياسات ترابية اعتُمِدت عبر تجارب مغرب ما بعد الاستقلال، كخيارات بقدر ما كانت عليه من طموح بقدر ما كانت بمحدودية انجاز على أرض واقع مع استثناءات نطاقية، تراكمات يؤدي ثمنها الجبل، ومن خلاله بوادي البلاد ومنها بوادي جهة فاس مكناس لِما هناك من هشاشة وصعوبة ولوجية وتحديات نماء.
ولا شك أن بنية اقتصاد جهة فاس مكناس كمجال جغرافي، تقتضي اعطاء الجبل ما يستحق ككيان ترابي استراتيجي بحاجة لسبل تنمية أكثر انسجاماً وتجاوباً واستثماراً لما هو متباين ومتوفر من موارد محلية، علماً أن الجبل بالجهة هو بمؤهلات بشرية وطبيعية بحاجة لإعادة قراءة وتدبير. ولجعل هذا الأخير بأثر في التنمية من المفيد أخذ ما هو وظيفي انتاجي فيه بعين الاعتبار، واعادة توجيه ما ينبغي توجيهه لفائدة عقلنة أهم في اطار ضبط علاقة الانسان ببيئته المحلية. واذا كان اتخاذ قرار تدبيري ترابي مجالي انمائي ما، أمر رهين بما هو ثقافي اجتماعي وبيئي لتحقيق رضى وقناعة الفاعلين، فإن نماء الجبل ومن خلاله بادية الجهة يقتضي فهم علاقة الانسان بوسطه المحلي أولا، كذا العلاقة بين ما هناك من إمكان حقيقي وأمر مراد إنماءه لبلوغ انجازات بقيمة مضافة معبرة على أرض الواقع. وحتى يكون الجبل بموقع مناسب في التنمية المحلية بجهة فاس مكناس، لابد له من جملة شروط، منها قدرة تجاوبه مع ما هو محلي كحاجة ضمن اقتصاد اجتماعي أكثر تجاوباً مع مقدرات كائنة، ناهيك عن بنية ولوجية وقدرة تسويق خصوصية ضمن منتج لثروة وفق سسيولوجيا محلية رافعة لتنمية مستديمة.
وحتى يكون الجبل بجهة فاس مكناس باقتصاد اجتماعي، من المفيد توفر عنصر بشري مؤهل لمسايرة ما هناك من تحول، ذلك أن الوقع الاجتماعي الهش لا يساعد على توجيه جبال الجهة لِما هو أفضل، وجودة التدخل في هذا الاطار تحتاج ليس فقط لكفاءات بل لطاقات بشرية محلية بقدر من تكوين وتأهيل بعيداً عن عزلة وهشاشة. ويتبن أن تنمية الجبل ومن خلاله الوسط القروي عبر اقتصاد اجتماعي بشكل ناجح، يحتاج الى استيعاب ما يطبع هذا المجال من تنوع، للتمكن منه وتوجيهه بما يفيد من غنى وثروة ونمو وتحول. بل تدبير المجال الجبلي يقتضي منهجاً واختياراً يجمع بين ابداع عملي وظيفي وبين واقع وحاجيات سوق وما هو متوفر من موارد، دون تجاهل لطبيعة فاعل في المجال كخصوصية سسيو ثقافية ومعه درجة ارتباط ببيئة محلية وقدرة تنافس.
ولعل الجبل بجهة فاس مكناس بكائِنِه الحالي كاقتصاد وثقافة.. هو بحاجة لاختيارات ونظم ومخططات وبرامج أكثر انسجاماً مع ما هو رهان محلي ومنشود من جهوية ترابية. فما عرفته البلاد وضمنها جهة فاس مكناس من سبل تدخل وتجارب في التنمية القروية صوب الجبل، كانت بإنصاف محدود في حصيلتها من حيث استثمار واستغلال ما هو متوفر بها من موارد، فالسدود بالجبل مثلا التي تم إحداثها كمنشآت وبنيات مائية ضخمة توجهت لخدمة مناطق أخرى بعيدة عما هو محلي جهوي، ومن هنا نوع من افقار جبل واغناء سهل ومن ثمة نماء مجالي غير متوازن. وقد بات الوسط القروي يعج بشباب من إشكالاته صعوبة ادماجه في نماء الجبل عبر اقتصاد اجتماعي، في غياب آليات تكوين مهاري وأساليب دعم مادي. وفي علاقة بتنمية الجبل ولبلوغ المنشود من نتائج، فإن الجهوية والجهة مدعوة لأدوار طلائعية في أفق نماء نسقي عبر ممكن من متاح وسبل، منها ما هو كائن ضمن توزيع عادل لثروات ولأنشطة اقتصادية واجتماعية.
لقد كان الجبل بالمغرب دوما بجدل ولا يزال، لموقعه كمورفولوجيا ووسط سسيو ثقافي، سياق من زاوية تاريخية كان موضوع ندوة علمية وطنية انعقدت قبل ربع قرن بكلية الآداب والعلوم الانسانية سايس فاس، تلك التي تمحورت حول “الجبل في زمن المغرب” من خلال قراءات للجبل، في علاقته بأودية وتجارب كيانات سياسية وتوسع وغزو أجنبي عبر زمن البلاد، فضلاً عما حضر من نماذج هذا الجبل من خلال تجليات روحية ووقائع عسكرية وسياسية، كذا ما طبع الندوة من سؤال حول الجبل كتراب ومقدس ومركز وهامش. مع أهمية الاشارة الى أنه باستثناء مؤلف”الجبال المغربية: مركزيتها هامشتها تنميتها” عن منشورات وزارة الثقافة قبل عقود من الزمن، ليست هناك اضافات معبرة ولا دراسات تهم هذا المجال، وفق ما يقتضيه الأمر من تأمل مجالي انمائي بيئي ثقافي ومن نظر استراتيجي.
وبقدر ما أثير حول الجبل بمجال جهة فاس مكناس من اهتمام وما أنجز حوله من تقارير خلال فترة الحماية الفرنسية على البلاد، وما هناك من أبحاث ذات تجاور من قِبل باحثين مغاربة هنا وهناك، بقدر ما يُسجل من ندرة سؤال بحثي راهن حول هذا الجبل بالجهة، كمعطى مجالي في علاقته بإنسان وثروة وموارد وتنمية وتدبير وتباين واقتصاد وجهوية جديدة ونماء واستشراف. ولعل جبل جهة فاس مكناس تراب واسع ومعقد، واسع إذا ارتأينا ما هو امتداد ونفوذ من حيث جملة ثروات تجمع بين مياه وغابات ومعادن وتُحفِ مشاهد بيئة، ومعقد من حيث واقع حال اقتصاد ومجتمع ونماء وانماء وولوجية وحجم ما هو مطروح به من إكراه مُركبٍ الى حين.
عضو مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث