فاس

د.حميد لحمر أستاذ بجامعة فاس يكتب : فاعلية القواسم الإنـسانـية المشـتـركـة في مـواجهة جـائحة كـورونـا

      إن الـتــــعـارف أولا ،و التـفـاهـم ثـانـيـا، ثم التـعـاون والـتــعـايش ثالـثـا بين الأمـم المختـلـفـة ، هـو سـنــة كـونـيـة ، ومما تـتــوقـف عـلـيـه الإنسانــيـة ، و تـحـتـاجـــه حـاجـــة مـــاســة ، وقـد نـبـه الـقـرآن الكريم  إلى ضـرورة التـــعـارف للـتــعــايـش ، وشرع التسامح ، والـرحـمة بيـن البشريــة جـمـعــاء – شـعـوبا و قبـائـل – ، قــال تـعـالى :”يــا أيـهــا النــاس إنا خلقــناكم من ذكـر و أنـثـى ، وجـعـلـناكم شعـوبا و قـبـائـل لـتـعـارفـوا ، إن أكرمكم عـنـد الله أتـقــاكم ، إن الله عـليم خبــيــر” الحجـرات الآيــة 13

و وأمـر بـالـبـر و الـعــدل مـع المخالفـيـن في الـدين ، فـقـــال فـي مـوضع آخـر لا يـنـهــاكم الله عـن الــذيـن لم يـقـاتلـوكم في الـديـن ولم يخرجـوكم من ديـــاركم أن تـبـروهـم وتقسطـوا إليهـم إن الله يحـب المقسطـيـن ” الممتحنة ، الآية 8 .

ونـبـه أن جــعـل البشـريــة أمـما ، ولـكل أمـة أو قـوم شـرعــة ومنـهــاجــا،  فـقــال تــعـالى :” لكل جـعـلنا منكم شرعــة ومـنـهـاجـا ، و لــو شـاء الله لجــعـلكم أمـة واحـدة ، و لكن ليبلوكم فيها آتــاكم ، فاستبقـوا الخـيرات ، إلى الله مرجـعكم جميـعا ، فينبئكم بما كنتم فيه تخـتـلفـون ” المائدة الآية 48

و هـنـاك الكثيـر مـن نــصوص الـوحـي القرآنـيــة الـتي جــاءت تـنـبـه و تــرشـد إلى هــذا الــتــنـوع البـشـري الـذي أكـرمـه اللـه ، و ربــط بيـن أنـواعـه –شعوبا و قبائل –  بمجـمـوعــة من الـقــواسم الإنسانـيـة المشتركــة ، الـشأن فيــها أن تجـمـع أكـثر مـما تـفرق ، و جـــاءت السنة النبـويـة لتــؤكــد و تبين مـا جـــاء فـي الـقـرآن ، وبــعـضـها جـــاء يـــؤسـس لمــبادئ إنسـانـيـة سامـــية انـطـلاقـا من مجـتمع المـدينـة مـن خـلال :”وثــيــقــة الـمـديــنــة” ، لمجـتمع كـان في بـدايـتـه متـنـوع الأعـراق و الأجـــنـاس و الــديــانــات و الاعـتــقـادات ، في السنـوات الأولـى من سـنـوات التشريـع ، فـفي خـطبـته صلى الله عليه و سلم فـي وسـط أيـام التـشريـق أنه قـال :” يَــا أَيُّـهـَا الـنَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّـكُمْ وَاحِـدٌ وَإِنَّ أَبَـاكُمْ وَاحِـدٌ ، أَلَا لَا فَـضْلَ لِعَـرَبِيٍّ عَلَى أَعْـجـَمِيٍّ ، وَلَا لِعَـجـَمِيٍّ عَلَى عَـرَبِـيٍّ ، وَلَا لِأَحْـمـَرَ عَلَى أَسْـوَدَ ، وَلَا أَسْـوَدَ عَلَى أَحْـمـَرَ إِلَّا بِالتَّقْـوَى ، أَبَـلَّـغــْتُ ؟ قَـالُـوا : بَـلَّـغَ رَسُـولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَـلَـيْهِ وَسَـلَـّمَ  “.  .

و قـد أكـد علمـاء تـاريـخ الأديــان ، أن حــيـاة الشـعـوب و القـبائـل ،  لا تـخـلـو من تــقــاطـعـات ديــنـية و إنـسـانـيـة  مشتركــة بيـنـهــا ، يمكن أن تـسـاهـم فـي  جــمع الـنـاس حـولـهــا ، ويـمكن أن تـنـبـنـي عـلـيـهـا عـلاقـاتــهم الاجـتـمـاعـيـة الـضـروريـــة  .

 و ذكــروا منـها : أصول الأديـــان ، الـتي لا يخــتــلف فيهـا ديــن عن ديــن، أو شريـــعــة عـن شريــعــة، كإخـلاص العـبـادة لله -تعالى- والإِيمان بكـتـبـه ورسلــه وملائكته واليـوم الآخــر، والتـحلي بمكـارم الأخــلاق ، كالصدق والعـــفــاف، و غـيـرهـا من المـبــادئ و القـيـم .

وأن الإسلام لـم يـلـغ أو يــنسـخ القـواسـم المـشـتـركـــة ، فـلـقــد كـان و لا زال و سـيـبقـى دائـما ،  يـدعـو النـاس إلى التمسك بتلك الـقـواسم المشتركـــة الـتـي تـسـاهـم فـي بــناء العـلاقـات بينهم ، حـتى يـتـمكـنـوا مـن عـيـش حـيـاة سعـيـدة متــكامـلة مـتــآلـفـة  ،تمكنـهم مـجـتمـعـيـن ، مـن درأ كـل المـفاسـد و الـجـوائــح الـعـامـــة .

و تـحــدثــنا كـتـب السـيـرة ، أن  المسلمـين أبـــانــوا طــيلـة تــاريـخــهـم، عـن حـسن مـعـاملتـهم لغـيرهـم بالبـلاد الإسلاميـة و خـارجـها ، و أسـعـدوا البشريـة  عـمومـا ، وامـتــدت مـعـاملتـهم الحسنة لـغـير المسلمين قـرونـا عــديــدة  ، فكانت محــضـنـا آمــنـا للــديــانـات و الثــقـافــات ، ولا تــزال إلى الـيـوم ، مـعـتـبـرة فـي اعـتــمـادهــا القـواسم الإنسانــيـة المشتركـة ، الـتـي يـجـب الحــفـاظ عليـها كـحـق إنساني ، منـهـا حــق ممـارسـة الـشـعـائـر الـدينــيـة ، كـل بما يـديـن و يـعـتـقـد ، و هــو ضـروري من الضروريــات الخـمـس ، مـما جــاء التـنـصيص بـالحــفاظ عـليـه فـي  سـائــر الأديـــان ، فـكان قـاسما قـويـــــا مـن  الـقــواسم الإنسـانـيـة الـمشـتركـــة ، أظــهــر نـجـاعـتـه فـي جـائـحـة كـورونـا” كـوفيد 19″. .

و إن تـــاريخ المسلميـن بالأنـــدلس ، و كــذا فـي فــتـرة حكـمـهم لجـزيـرة صيـقـلـيـا و جــنـوب إيـطــالـيــا، و أوربـــا الشـرقـيـة ، و بـجــهـات أخــرى  ، لخــيـر شـاهــد على هــذا ، فلقـد وصـلتــنــا مصادر كـثـيـرة ، تحكي عـن الـتـــنـوع الإنسانـي الفـسيـفـسائـي بـتــعــدد نحـلـه و مــذاهـبـه الـذي عـرفـتـه هــذه البـيــئـات ، و كـلـهم كــان يتمـتع بالحـيـاة الكريمة في ظــل مـراعــاة الـقـواسم الشـرعيـة والإنسانية المشتركــــة ، ولـعـل فـي مـقـدمـتــها إيــمـان المسلمين بـنـوة أنبــيـاء اللـه مـوسى و عــيسـى ، و  حـق الحـفـاظ على الـديـن ، بالممـارسـة الــتـطـبيـقـيـة بكـل حـريــة.  

ويـشـهــد لهــذا التـعـايـش الـيـوم ، وجــود طـوائــف من الـنصارى و الـيـهــود وغـيرهـم من النحـل  بيـن المسلميـن في أمــاكن شـتى ، كما يـتـواجــد المسلمون اليــوم عـند غـيرهـم، إمـا بالأصـالـــة ، أو الانــتـماء ،  بــدول كـثـيرة في تــعــايـش لائــق ، ساهـم في إنـجـاحــه و ترسيخــه ، قـواسم إنسانـية مشتركـة ، ساهــمـت في تــعـــارف كـل أولا ، ثـم الـتـعــاون ثــانـيـا.

لـقـد أكــدت الـتـجـارب الإنـسانـيـة ، أن الــتــعـــارف والـتــعـاون المـفـضـيـيـن إلـى التـعــايـش  بين بني الإنسان ، -الشـعـوب و الـقـبـائـل-  ، لا غـنى عـنه ،كما نبـه إلـيـه القرآن ،  وأن فـيه فـوائــد كــثـيــرة ، منـهـــا :

  انتـشار المبـادئ والأخـلاق الأكـثـر إقـناعـا وجـاذبيـة،كالمساواة والحريــة والـعـدالـة  والـصدق والأمـانــة  والـوفـاء .

  استـــفـادة كـل طـائـفـة من خـبرات وتجــارب و أعـراف الطـائـفـة الأخـرى ،  في كـل  مناحـي الحـياة : سياسـية ،و اقـتـصاديــة ،و اجــتـماعـيــة ، وإعـلاميــة .

  تنمية وتـعـزيـز الـقـوا سم المشتركـة بين الطـوائــف جمـيــعا، لأن مركـبا واحــدا يجـمـعــنـا ، وأي خـلل فـيه ، سيـدفع الجـميع ثمـنـه غـالـيـا .

  ازدهـــار العـلـوم والفـنـون المخـتـلـفـة بـتــبـادل الـتجــارب و الـمــعـارف ، وإثـــراء بعـضها للبعـض الآخــر .

  تكامل الموارد الاقتـصاديــة ، بـتـبـادل السلع والخــدمــات ، بشكل مـنصف ، يكـفـل للكل العــيش الكريم لجـمـيـع الـطـوائــف – شـعـوبا و قـبـائـل – .

 

وهــنــا  لابـد أن أنبـه ، و مـن خـلال الأحــداث الـتـاريـخـيـة ،  أنــه  قـد مرت حــقـب طـويلــة على الجــنس البشري،  على هــذا الكـوكـب الأرضي ، تـراوحــت الـعـلاقـــة فـيـهـا  بين بـنـي الإنسان ،بيـن التــعــارف و التـــفــاهم والتــعــاون ثم التـــعــايـش ،وبـين النـفــور و التـجــاهـل ، والخـلاف والنزاع والشـقــاق ، و الـتـعـالـي و الاستـقــواء و الظـلم .

وكـانت نـتــائـج – الحالـة – الأولــــى : المبنية على التـعــارف والـتـفــاهـم ، و التكامـل و التـعـــاون و التـعـــايـش ، إيجــابية على الجـمـيع .

 أمــا الثـانـيـة :  فكانت سلـبـية بكـل المقـاييس ، و تـأتــي جـائـحـة  فـيـروز كـورنـا19 المستجــد فـي وقـتـنـا الـحـاضـر ، لـتـكـشـف لنـا نـجـــاعــة الأولـى ، المبنـيـة على التــعـارف و الـتـفـاهـم و التـعـايـش، و أنـــها الأصــل و اللــبــاب  الـذي نبــه إليـه الـقــرآن، كما أنــهـا السـنـة الكـونـيـة الطـبـيـعـية الصحـيحـة ، الـتـي أزاحـت الحـواجـز، وقـصرت المسافـات ، و قـربـت المـتـــبـاعــدات، حــيـث تـجــنـد ت فيــهـا البشـريـــة – شـعـوبا و قـبائــل – ، بجـميع الأعـراق و الأجــنـاس و الـديـانـات ، وكـانـت في صـف واحـــد ، مـتـراصـة في خــنـدق واحــد، لمواجـهــة عــدو واحــــد ، يــهـدد الإنسانــيــة جــمـعـاء ، عـمـدتـهـم مجـموعــة مـن القــواسم المشتـركــة أهـمـهـا : الـوازع الـديـني ، والأخــوة الإنـسانــيـة ، و مشـتـركـات  إنـسانــيــة أخــرى   .

        و في إطـار الـوازع الـديـني ،لاحـظــنـا مجـمـوعـة مـن الـدول الـغـربـيـة ، حاولت  التـــقـريب بيـن دور الـعـبـادات لتوحـيد قراراتها لمواجـهة الجائحة  ، وأبــان مجـموعـــة مـن الـعــقـــلاء و الأوصـيـاء – و بــدعم ساساتــهم و كـبرائــهم -، من أتـــبـاع هــذه الــديــانــات الإبـراهــيمية الــثـلاث : اليــهــود و النـصـارى  والمسـلمـيـن ، المخـلصين لـديـنـهم ومـبادئــهم وأوطــانــهم ، عـن قـنـاعـتـهم  ضـرورة تــعـزيــر و تـوظـيـف المشـترك الـديـني ، والأخـلاقي بيـن الأديـان الـثـلاثـة : كالإيمان بخـالــق لهـذا الـكون و كائـنـاتـه ، وإيـمانـهم بالحساب والـجـزاء ، و الجــنة و الـنار ، و القـيــم الإنسانيـة المشتركـة ، مثـل : الكرامة الإنسانية ، و المساواة ، و الـعـدالـة و الحـريـة ، و غـيرهــا من المـبـادئ و القـيـم الإنـسانـية الساميـة  الــتي شكـلـت لـهـم أرضية صلـبة ، أمـكـنـهـم الـوقــوف عـليـها جـمـيـعـا ، وحــاولــوا تـنزيــلــهــا و تـجسـيـدهــا في واقــعــهـم ، وكــانــوا فـي صـدارة الخــطــوط الأمـاميــة الأولـى فـي مـحاربــة هــذا الــداء ، انطـلاقـا من مسـؤوليـتهم الـديـنيـة و الأدبـيـة ،  و أمــكـنـهم مـن خـلال هــذا تــقــديم الــدرس لأتـبـاعـهم و تـوجــيـهــهم ، مـعـتـقــديـن و عـن قــنــاعــة ويــقــيـن ، بــأن لا حـل لمواجـهـة هـذه الجـائـحة إلا بالـتـقـارب والتـعـاون و التـعـايـش بيـن النـاس أجمـعـيـن – شـعـوبـا و قـبـائل –  ، سـعــيا منـهم جـمـيـعـا ، انـقـاد الإنـسانـيـة مـن أدى  عــدو واحــد .

        ولـقــد سـاهـم  كـل منـهم ، في التـحـسـيس بـأهـمـيـة الحــيـاة البشريـــة ، و ضـرورة الحــفــاظ على النفـس مـن الـتــهلـكـة ، كـضـرورة من الضروريــات الخـمس الــتي نـــادت بـحـمايـتـهـا والـحـفـاظ عـلـيـها جـمـيـع الأديـان ، ونــبـهــوا  إلـى وجــوب اتـخــاذ الأسـبـاب المنـجـيـة مـن عــدوى وبــاء كــورونا ، فسمحـت أغـلـب الـدول الـغـربـيـة للمسلمـين بالآذان بالـشارع الــعـام ، بـعـد أن كـان ممـنوعـا ، و مكـنتـهم مـن الكـنـائـس لـرفـع الآذان والـدعــاء بمـكـبـرات الـصـوت ، ونــادوا جـمـيـعـا بالحـجـر الصحـي ، وألـزمـوا الـنــاس  بـالمكـوث بالبـيــوت ، و الـتـزام النــظــافــة ، و الاستــعـانــة بالصـلـوات و الأدعـيـة ،و أمــروا جـمـيــعـا بــإغـلاق دور الــعـبـادة كــالكـنـائـس و المسـاجــد و الـبــيـع ، والاكـتــفــاء بــإقــامــة  الصـلـوات والشـعــائـر كـلــها في البــيــوت ، وأكـدوا فـي تـصـريحاتهم لأتـبـاعـهم إيـــقــاف تنـظـيـم تجــمـعــات مجــمـوعــة مـن الـشـعــائــر والـمـواســم الـديــنـيـة مـثـل : عـيـد الـفــصــح ، أو مـا يسمـى بــعـيـد القــيـامــة  عـنـد الـمـسـيحـييـن  ، ومـوسـم لــيـلـة  الـهـيـلـولـة عــنـد الـيـهــود ، وسـنـة عـمـرة رمـضان و غـيرهـا من المـمارسات الـدينـية الجماعـيـة .

         عـلى أن هــذه المواسم ، تـعــتــبـر من أكـبـر المواسم الـديـنـيـة المـقـدسة في الـديـانـات الإبـراهـيـمـيـة الثـلاث ، و لـكـن رغــم أهـميـتـها فـي نـفـوس المؤمـنـين بـها و قـداسـتـهـا ، فـلـقـد غـلـبـت المصلـحة الـعـامـة ، و ضـرورة الـحــفـــاظ عـلى الـنـفــس الإنسانـيــة  ، حـــتى لا تـتــعـرض إلــى الـعـدوى ثم الــهــلاك ، وهــذه مـن القـواسم الــتـي تشـترك فـيــها الإنـسانـيـة جـــمعــاء ، مما جـاء الـتـنصـيص عـليه في كـتـب الـوحـي المعتبـرة ، وهـي تـعـكس لــنـا رحـمـة خــالــق الـعــبـاد ، بـعـبـاده جـمــيـعــا .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WeCreativez WhatsApp Support
فريق صفروبريس في الاستماع
مرحبا