لا يختلف اثنان في اعتبار الثقافة الشعبية مصدرا ملهما للتعرف على مسار تشكل هوية مجتمع ما، ومسار التفاعل بين الأحداث الكبرى الوازنة والمعيش اليومي، وبين تقلبات الأحوال الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية، وبين نشوة الانتصار ومرارة الهزيمة. فوسائل الاتصال الحديثة العابرة للقارات والمخترقة للعقول أتت على ما تبقى من معالم هوية الشعوب، فنمطت أذواقهم وغيرت ثقافاتهم وعاداتهم وفق قوالب مستوردة جديدة؛ في الملبس والمأكل والذوق واللغة والفنون.
من هذا المنطلق جاءت فكرة العودة إلى مساءلة الثقافة الشعبية اليازغية الغنية بالرموز والدلالات، باعتبارها مفخرة محلية، وتراثا وطنيا، ينبغي جمعه وتدوينه كضرورة أخلاقية وثقافية.
تعتبر أهازيج القبيلة إحدى مكونات وعناصر الثقافة الشعبية المميزة، والتي تحتاج إلى دراسة عميقة لاستكناه خباياها وفك طلاسمها المدسوسة داخل النصوص التراثية الدفينة والمتفرقة في “القصيدات” بتسكين القاف و”السرابات”؛ التي للأسف الشديد لم تعد محفوظة إلا في ذاكرة بعض الشيوخ أو في بعض التسجيلات الصوتية الخاصة، التي يصعب الحصول عليها ما لم يتم إقناع أصحابها بضرورة وأهمية الإفراج عنها.
وتعد رقصة أحيدوس من أرقى الألوان الفرجوية داخل القبيلة، رغم حضور أشكال أخرى؛ كفن “العيطة”، و”عيساوة” – خاصة في دوار تاغروت؛ حيث ارتبطت الفرقة بأبعاد روحية وطقوسية، إحياء لموسم “سيدي بوطيب” بأولاد علي-، والعزف على آلة النفخ “الغيطة”. فما هي مميزات هذه الرقصة (أحيدوس)؟ وما علاقتها بفن العيطة، كفن عربي أصيل؟
لا يمكن فهم رقصة أحيدوس إلا إذا وضعت في إطارها المجالي والسوسيو اقتصادي واللساني . فقبيلة بني يازغة تنتمي مجاليا للأطلس المتوسط، حيث الطبيعة الجبلية، والمناخ القاسي، وتعتمد على النشاطين الزراعي والرعوي، لذلك فالأفراح والمظاهر الاحتفالية تنطلق بعد موسم الحصاد وعودة الدفء إلى أرجاء القبيلة. أما لسانيا فهي ناطقة بالدارجة المغربية في الوقت الحالي،مع بعض الخصوصيات المحلية التي تميزها عن غيرها والتي من المفترض أنها خضعت للتعريب عبر هجرات عربية إلى القبيلة في فترات سابقة، لم تسعفنا المصادر الحالية -لسوء الحظ- في رصد تاريخ تعريبها أو الطريقة التي تم بها ذلك. لكن ما يمكن تثمينه هو التمازج الحضاري والتلاقح الثقافي بين جميع العناصر البشرية التي استوطنت المنطقة، سواء كانت عربية أو أمازيغية. أما التعريب فهو ليس مسألة سهلة يمكن تأطيرها بتاريخ محدد أو ظروف معينة، فهو صيرورة طويلة وعسيرة تتطلب جهدا كبيرا وانفتاحا على عدة تخصصات معرفية حتى نتمكن من ملء الفراغات الواسعة التي خلفها صمت المصادر التاريخية .
إذا رجعنا إلى أحيدوس بصيغته البربرية، فمعظم الدارسين يجمعون على أنه رقصة أمازيغ الأطلس بامتياز. تؤدى باللغة الأمازيغية ويشارك فيها الرجال والنساء على السواء، يرأسها “الرايس”، الذي يضبط إيقاع الرقصة “بالبندير”، وتقوم الفرقة بحركات تموجية متناسقة مع تحريك الكتفين والأرجل، ويكون تموضع الفرقة بشكل دائري أو عبارة عن صفين متقابلين. فماذا عن أحيدوس بني يازغة، من حيث التنظيم، ضبط الإيقاع، اللغة، الآلات الموسيقية المستعملة، ودلالات الحركات “الرقصية” والمنطق الداخلي لهذا الرقص الغنائي؟
من المعروف أن فن أحيدوس عند قبيلة بني يازغة، رقصة غنائية جماعية رجولية بامتياز، تمت أسلمتها وتعريبها، فكان من البديهي أن تبعد المرأة عن هذا الشكل الكرنفالي، لكنها انفلتت من ربقة هذا الحظر فتشبثت بالمشاركة ولو بإعداد أصناف المأكولات، أو إطلاق زغرودة مدوية تشنف أسماع الحضور، وتفجر قريحة “الشيخ” بارتجال “سراريب” تنبعث من أعماق اللاشعور، فينعم عليها بتمجيدة “مدح” تظل تلوكها الألسن عبر الزمان، وكأنها دعوة متصوف أو ولي، تصنع لها المجد والاحترام داخل القبيلة. وهذا التشبيه الأخير ليس من سبيل المزايدات المغرضة كما يتبادر إلى الذهن، ولكن الشيخ كان سلطة حقيقية في القبيلة ونال احترام الجميع حتى أن السلطات الاستعمارية الفرنسية تفطنت لهذه الكاريزمية الفنية وأحاطت “الشيخ” بالوقار وأغدقت عليه بالعطايا والإكراميات لاحتضانهم وتقريبهم، ضمانا للسلم والاستقرار. وكان الشيخ الرجل الأول في هذه الرقصة والناطق الرسمي باسمها والمنتج لخطابها وقصائدها، والمتحكم في إيقاعها. وإلى جانبه نجد شخصية “المقدم” وهو الساهر على الالتزام بالمواعيد وحاجيات أعضاء الفرقة (الحيادسية). …يتبع