مصطفى الزِّين يكتب بخصوص توقيع ديوان “منزل المحبوب عنوان المحب” للشاعر بوطرفاس

هشام :حَبِيبَتهُ ، عَجِينَتُهُ اللُّغَةْ
الشِّعْرُ طِفْلٌ
يَتَأَمَّلُ الْأَشْيَاءَ
يُرَكِّبُ لُعْبَةً
أَوْ دَهْشَةً /أَوْ جُمْلةً /أَوْ كِذْبَةً / أوْ صُورَةً / أَوْ نَغْمَةً..
يُفَكُكُهَا / يَكَسِّرُهَا / وَيَجْبُرٌهَا..
يُعَلِّمُنَا كَيْفَ نَكْسِرُهَا / وَنَجْبُرُهَا؛
اللُّغَةْ
وَهِشَامُ طِفْلٌ
صَيَّادُ عُزْلَتِهِ
ضَيْفاً عَلَى ضَيْفَيْنِ:
مِرَآةٍ وَصُورَتِهِ
وَيَخْلُقُهَا صُوَرْ
وَيَخْدِشُهَا/ وَيخْمِشُهَا
خَيَالاً أَوْ فِكَرْ
هِشَامُ يَهْشِمُهَا / وَيَرْثِيهَا /وَيُحْيِيهَا / وَيَبْنِيهَا / وَيَنْقَعُهَا
فِي صَفْوِ جَدْوَلِهِ
فُصُوصَ الْمَاسِ / زَهْرَ الآسِ
أو شُقْراً شَذرْ
يَسِيرُ / يَدُورُ/ يَفُورُ
يُفْرِدُهَا جَنَاحَيْ طَائرٍ
أوْ طائِرَهْ
أوْنـحْلَـةٍ فِي بَهاءِ فَرَاشةٍ
فِي مَتَاهَةِ دَائِرَهْ
هَامَتْ وَهَامَ
يُهَوِّمَانِ / يُدَوِّمَانِ / يُهَيْنِمَانِ/ يُدَمْدِمَانِ
يُلَعْثِمُهَا / وَيَلْثَغُهَا /وَيَلْثُمُهَا
وَيبْعِدُهَا/ فَيُدْنِيهَا /وَيَحْضُنُهَا
شُمُوساً أَوْ قَمَرْ
هِشَامُ لُعْبَتُه /عَجِينَتُهُ/ حَبِيبَتُهُ اللُّغَةْ.
م.الزِّيــن
-2-
كان هذا النص أوَّل ما افتتحت به كلمتي الاحتفائية التقريظية ، في حفل توقيع ديوان ” منزل المحبوب عنوان المحب” للشاعر الصفريوي الشاب ، صديقي الأستاذ هشام بوطرفاس.
وقبل ست سنوات، أو أكثر قليلا، لم أكن أعرف شاعرا باسم هشام بوطرفاس.وأول ما طالعني اسمه كان في جنريك أغنيتين من إبداع الفنان الصفريوي الأستاذ بدر سليمان ، وأثارني ما كان ينشره على الفيس من أشعار على صفحته (الغريب الغريب)، ثم صفحته ( ضيفا على نفسي) ..وعلمت من صديقي الشاعر الناقد الأستاذ محمد بودويك أن هشام شاعر شاب تخرج، قبل ما يزيد قليلا عن عشر سنوات ، أستاذَ لغة عربية بالتعليم التأهيلي ، من المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين- فاس مكناس، وأنه كان أحد طلبته هناك من فوج ، منه ،أيضا، الشاعران الشابان دليلة فخري وإدريس الأزمي .
وقد كان نصي، الذي قرأته فاتحة ذاك الحديث ، مما تفاعلت به معلقا على نصوصه الشعرية على الفايس،والتي تُعْدي وتُلهِم ، وراق لي أن أسجل أديوهات بإنشادي بعضَ قصائده كقصيدته الجميلة كقصيدته"المستحيل"، وترجماته الشعرية المدشهة لنصوص شعراء فرنسين ( ڤكتور هوجو- شارل بودلير،وغيوم أپولنير ) بعدما توطدت بيننا أواصر صداقة افتراضية على هذا الفضاء الأزرق ، ثم تحولت إلى صداقة في الواقع الملموس ، لما كان بادر إلى مهاتفتي، وترتيب أول جلسة جمعتنا، فأهداني نسخة من دوانين من دواوينه التي بلغت مع"بيت المحبوب.." تسعة ، وهي:( كتاب الخريف- سماء هامشية- ضيفا على النسيان- إلَى- عداء المجاز- 6 ديسمبر- ما هو تعريف يديك ؟ قدِّمي الورد) ،فوق كتابه القصصي "الوردة الملكية" ونصوص" معبد القهقهة" .
وهو، بحق شلالُ ماء شعري ، ونهرٌ ينسرب وينساب، في صمت ، تحت جنان صفرو،موازيا لشلالها الزلال ونهرها أگاي – كما كتبت غداة أهداني نسخة بتوقيعه ، مباشرةً بعد نشر كتابه الشعري هذا: ” منزل المحبوب.. “
"منزل المحبوب عنوان المحب " كتاب شعري ؛ جسَّد، ربما ، هذا الطموح الذي يراود كبار الشعراء،منذ المعري في لزومياته ،وابن حزم الأندلسي "في طوق الحمامة" إلى أدونيس منذ" كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل" إلى "الكتاب : أمس المكان الآن" بمجلداته الثلاثة، ثم "الأدونيدا"كملحمة شعرية أدونيسية توازي ملحمة الإلياذة اليونانية، وجلجاميش العراقية العربية.. ( التي أبدع إبداعا في ترجمتها شعريا تميم البرغوثي، قبل نحو عامين اثنين)،
ف”منزل المحبوب.. ” كتاب شعري ، وليس مجرد قصيدة مطولة، من نفَس واحد.. ويمكن اعتباره نشيدا أو مزامير متواصلة متناسلة متناغمة ، أو سنفونيةً تعزفها كمنجات الشاعر ونايات قصبه المثقوب ، وكوراله من المنشدين المرددين .
-4-
أحببت أن أقدم شاعري هشام شعرا، ، لأن كتابه الشعري، هذا، إنماهو كسنفونية ؛ إذا سألنا مبدعها عن ما أراد قوله ، كنا كمن سأل بتهوفن عن ما أراد يقول بسنفونيته التاسعة؟ فما كان الا أن أعاد عزفها؛ فكل محاولة لتحليل هذا الكتاب ، ، ؛ كل محاولة لمقاربته نقديا ، لن تكون سوى تعسف في محاولة تشريح العطر، فليس لنا إلا أن نتوسل أمامه، ليس لمحاولة الدخول ، وإنما لمحاولة الخروج من ملذات سحره، لأن القارئ، أي قارئ محب للشعر، بمجرد ما يفتح هذا الكتاب الشعري ، ويقرأ صفحته الأولى ، حتى يجد نفسه متورطا، مُقتنَصًا في شَرَكِه الجميل، وفي لذاذة سحره، كما لو كان أمام شيخ معلم من معلمي الروح وتأملاتها في حضرة الحب والجمال والجلال.
-5-
وليكن أول مداخلنا لعبور مجاز” منزل المحبوب..”، لنعدو مع “عداء المجاز” الشاعر هشام مراوحين جيئة وذهابا ،للانسجام في رحاب تلقي هذا الكتاب الشعري وتذوقه جماليا ؛ لتكن محاولة تلمس بنائه ، وملامح معماره الفني ، وهندسة تشكيله الإيقاعي الموسيقي:
إنه كتاب شعري عربي أصيل، ينسجم تماما مع الأذن والذوق والوجدان العربي، وخصوصية العربية وعبقريتها. يعتمد عروض الشعر العربي، ولكن خارج بحور الخليل.. وذلك باتخاذ التفعيلة الحرة وحدةً إيقاعية . وهو، عبر صفحاته المائة والأربع والأربعين(144)، يراوح بين إيقاع تفعيلتين اثنتين ؛ أولاهما تفعيلة الرَّمَل (فاعلاتن) طبعا بإمكاناتها من الزحافات والعلل(فعلاتن – فاعلا=فاعلن، فَعِلا =فعلن)؛ هذا ما نجده ، وتحسه أذننا الموسيقية في ما جاء بالخط المشدد.. ( الصفحة الأولى من النص مثلا ):
هكذا قبَّلتُ ثَغرًا = فاعلاتن/ فاعلاتن
وتعقَّبْتُ كطِفلِ الطُّرُقاتِ السَّكَنا = فعلاتن/ فعلاتن/ فعلاتن/ فعِلا
وتلذّذْتُ بِشهْدٍ = فعلاتن فعلاتن
وتلذذتُ بِوَرْدٍ = فعلاتن فعلاتن
وتورَّطتُ طويلا في مرايا =فعلاتن/ فعلاتن/ فاعلاتن
………………………..
وفي سائر المقاطع والصفحات المشددة خطَّا أو رَقْنًا ، مع ما تجده بين الأسطر، هنا أو هناك، من تدوير بنوعيه ؛ العروضي والتركيبي.
أما في ما تجده ،في هذا الكتاب الشعري، بالخط المرقق – وهو أربعون مقطعا متضافرة مع المقاطع المشددة – فتجده ، في جله، ما جاء على تفعيلة المتدارك( فاعلن ) ، أيضا بإمكاناتها من الزحاف ( فعِلن- فَعْلنْ- فاعلُ)، والتدوير بنوعيه ، أيضا ؛كما في هذه الأسطر من ص16 /17، على سبيل التمثيل :
يمكنُ أن يصبح فقريَ كنزا = فاعلُ/ فعْلن /فعِلُنْ /فعِلُن فعْـ
إنْ كنْتِ الحبَّ =لنْ / فعلن/ فعلن/ف
وكنتِ الورْدَ بِنافذتي = علن /فعْلن/ فعْلن/ فعِلنْ/ فعِلن
إن كنتِ الوقتَ =فعْلن فعْلن ف
يزوِّدني بدقائِقَ عشبيَةٍ = علن/ فعِلن /فعِلن / فعِلن/ فعِلُن
………………..
ولكن المقاطع المرققة ، أو المخففة، أحيانا، تأخذ إيقاع تلك المشددة؛ أي إيقاع تفعيلة الرَّمَل ( ص :48 مثلا) . غير أن المقطع الأخير، الختامي، في النص ص:143 نجده يكسر طقس هذا التناوب بين إيقاع التفعيلتين، ؛ نجده منفردا بوزنه وتفعيلتيه على البسيط( مستفعلن فاعلن ) في ما يكاد يكون ثلاثة أبيات تقليدية خليلية ، ولكن البيت الثالث الأخير يكسرها تقفيةً إذ يؤخرها بعد شطر سابع.
كما نجد هذا الإيقاع من البسيط ، في قفلة الختم، كامنا ، من قبل، في ص102، يكسر انتظام تضافر مقاطع إيقاع تفعيلة الرَّمَل ، وتفعيلة المتدارك :
خلْخالها:وردة في الساق
أغنيةُ المعني تزقزقُ
في الإحساس والبالِ
…………
يتضافر ، إذن، هذان الإيقاعان، وهذان اللونان، الغامق المشدد، والفاتح المرقق، ويتناوبان في الظهور، تماما كضفيرة شََعْر، أو ضفيرة شِعر، ويتماهيان، ولكننا نجد في اثنتي عشرة صفحة
(من109إلى 120) ما يشبه مِشْبكا، على هذه الضفيرة مكونا من ثلاثة عشر مقطعا مرقما من 1 إلى 13،أو ثلاث عشرة عقدة، متفاوتة في الطول أو في العرض . ثم تنساب الضفيرة المزدوجة إلى نهايتها ؛ حتى نهاية متن الكتاب الشعري ؛ لنجد في الختم مشبكا مختلفا هو تلك الأبيات الثلاثة ونصف من البسيط .
ويبدو لنا هذا التضافر من الوزنين التفعيليين ،وتكسيرهما، وذانك المشبكين ( المرقم ،والنهائي من البسيط،)كما لو اننا أمام نخلة باسقة( من الرَّمَل- بالخط المشدد) يتسلقها، مُطاولا متضافرا، لبلابٌ (من المتدارك) إلى أن نلفي ذلك المشبك من المقاطع الثلاثة عشر المرقمة، كما لو كانت أعذاقَ تمر يانعة( من المجهول/ المعلوم) تتدلى مثقلة ، قبل رأس النخلة/الكتاب)وشماريخها من البسيط ، السبعةَ شطرةً، أو الثماني والعشرين تفعيلة ، متناوبة من ( مستفعلن ) و(فاعلن) .
-6-
ولا يقتصر الجانب الموسيقى على الأوزان العروضية التفعيلية المتضافرة ، المتناوبة ، المعقودة بمشبكين اثنين ، أو ثلاثة..؛ وإنما يستبيك هذا العمل الشعري بغنى صوتي موسيقي ،لا يمكن أن نميز فيه بين إيقاع خارجي، وآخر داخلي، كما تُوهمنا بعض المناهج المدرسية المبتسرة؛ فإن أنوية التكرار المنوع تنويعا، وأشكالَ التوازن والتوازي والكثافة الصوتية ، والإئتلاف والاختلاف..،لا تفتأ تتناسل ، وتسعف القارئ على استساغة متعة والتذاذ موسيقي ، أصبحنا نفتقد نظيره منذ السياب .. وعبد الله راجع .. ودرويش ، فنحن حقا أمام سنفونية شعرية متصاعدة ، من تماوج وتجاوب الكمنجات، وتناوح نايات ، ونداءات أشواق الشاعر وكورال من جوقة المرددين ، بالاضافة ، طبعا، لآلتي الإيقاع العروضي: تفعيلتي الرَّمَل والمتدارك ، وفي الختمة ، إيقاع البسيط ، الذي وجدناه ، من قبل ، كامنا متخفيا وسط المتدارك ، وظاهرا في الصفحة الأخيرة من متن الكتاب.
إنها سنفونية الشاعر، وأغنيته أو غناؤه، إذ يتكرر لفظ الغناء، وما يدور في فلكه ،كثيرا في المتن الشعري (أنا لا أغفل عن أغنية/ص14_ فرصة للبحث عن أغنيةٍ/ص15_ ما دام إلى أغنيةٍ من عبق/يلقي اليدا/ص20- كيف لا تسبقني/نحو سريري الأغنيةْ؟/ص21_ عاريا كان وفي نفس الأغاني/ يتملى عريها/ص23- أغنيةً ما جهَّزَتْ – لم تعد لي شهوةٌ تملكني/ غير الأغاني/ غير بحث في الأغاني /ص28 – ألتقي أغنيةً تجرع خمرا/ص31- مثل طفل كانَنا/ يتقصّى في السرير الوطنا/ ويؤدي الأغنية/ص140..)
-7-
يعتمدُ البناء الموسيقي السنفوني في هذا الكتاب الشعري على أنوية إيقاعية، منها ينبثق التكرارات والقوافي، والكثافة والتوازيات والتوازنات الصوتية الغنائية .
لننظر،تمثيلا، الى المقطع الأول، والى الجملة الافتتاحية ؛ في هذين السطرين
هكذا ، قبَّلت ثغرًا
وتعقبتُ كطفل الطرقات السَّكَنَا
....................................
هذه الـ( هكذا=هاكذا) ،باعتبارها تكتنز شحنة تعبيرية ،لا تفتأ تتكرر في الصفحات الأولى ،على أبعاد ومسافات زمنية ، على رؤوس المقاطع:
(هكذا ذقتُ نبيذا ص5- هكذا عانقتها..-هكذا خالطتها..ص6 – هكذا قلت،وألقت ظلها..-هكذا قالت..ص12/وإني أعرف..-هكذا قالت وإني..ص13-)، ثم تختفي هذه النغمة ..إلى أن يظهر مقطعها الصوتي الأول (ها)في بداية المقطع الختامي من البسيط: “ها” قد رجعتُ إلى نفسي أكلِّمُـ”ها”.. تتكرر هذه الهاء الممدودة، في بداية الجملة وفي نهايتها،، كما تكررت في ها” كذا” قبلتـ”ها”، أو عانقتـ”ها”
وقس على هذا ألفاظا، أو جملا،أو أجزاء من جمل، على رؤوس مقاطع مختلفة :
-نكهة الأعشاب تدعوني- إلى أن أنخطفْ..-نكهة الأعشاب تدعوني/إلى أن أنكشف..
-هي ذي بالقرب مني ..-هي ذي تغزل عريا..
-هو أمر وارد في الحب..- هو أمر وارد أن أشعلا..
كيف لي أن أزنا..-كيف لي/وهي التي تخرج..
هذه الجملة الافتتاحية: (هكذا قبلت ثغرا/ وتعقبت كطفل الطرقات السكنا) نموذج للأنوية التي تختزن القوافي المنوعة تنويعا؛ فهذه القافية :الطرقا(تِـ سْسَكَنا= /٥///٥) المتراكبة، النونية الموصولة بالف المد، لن تتكرر على بعد شطرين، أو أربع تفعيلات، أو ست، أو ثمان عند نهاية الأبيات التامة أو المجزوءة؛وإنما على مسافات ليست متساوية ؛لن تتكرر إلا عند نهاية المقطع الأول متداركة( وتُهدي/ني أنا)وعند نهاية المقطع الثاني متراكبة (أو زمنا)وتختفي حتى إلى نهاية المقطع السادس(أو وطنا) فنهاية السابع( أو منحنى )ونهاية الثامن ،ونهاية التاسع الأطول، وتختفي لمدة تقصر أو تطول، ولكنها تعود فتظهر ؛كما تعود نغمة أو لحن في أصوات وألحان السنفونية، كما تظل النون رويا هنا أو هناك، وإن أصبح وموصولا بالواو، وليس بالألف( المدنُ و-الزمنُ و- البدن و..)
وإن السطرين الأولين الافتتاحيين ، هما أيضا نموذج لتوالد أفعال وألفاظ من التجنيس والترصيع؛ فعندما نقرأ أو نسمع (وتعقَّبتُ كطفلٍ..)لا نتفاجَأ لما نسمع (وتلذذتُ بشهدٍ /وتلذذت بعطرٍ/وتورطت طويلا..)في تناوب وتجاوب جميل من التشديد والتمديد، أو من التوتر والارتخاء،كما في عزف الكمان، وتجاوب الناي..
-8-
وإذا اعتقدنا أن ما نجده في كتاب” بيت المحبوب..” مرقونا بالخط المشدد المغلظ ، على تفعيلة الرَّمل ، يمثل صوت الشاعر المُحِبّ العاشق؛ وأن ما جاء مرقونا بالخط المرقق المخفف الملطف على تفعيلة المتدارك ، بالمقابل، يمثل صوت المحبوب، الحبيبة الأنثى؛ إذا اعتقدنا هذا التناوب، أو التضافر بين الوزنيين والخطين إنما هو تناوب بين المحب والمحبوب ، نكون أخطأنا العنوان تماما فبيت/ منز ل المحبوب هو بالذات عنوان المحب ، أي أن الخطاب هو من الشاعر وإليه ، والبريد(= الطريق) إنما هو مراوحة ونوَسَان بين الأنا والذات العاشقة المحبة ،
المحبوب المفْعولُ هو عيْنٌ المحب ( الفاعل)، والمبتدأ( المحبوب) وهو عين الخبر (المحب)، كما في تركيب بيت المتنبي الحِكَمي الشهير:
فقرُ الجهولِ بلا علمٍ إلى أدبِ فقرُ الحمارِ بلا رأسٍ إلى رسَنِ
الخطاب من منزل المحب وإليه ،لأن المحبوب إنما فيه يسكن، ويقيمان معا في نفس العنوان.. في نفس الذات،. والبيت هو نفسه منزل/ بيت أبي تمام،[ما الحب إلا للحبيب الأول، وحنين الفتى أبدا لأول منزل ]، بل المنزل هو نفسه ذاك الذي كان امرؤ القيس وقف عنده واستوقف وبكى واستبكى، في مطلع معلقته :”قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل” كما كان حفر واحتفر ،ذات مرة، النباش الجميل الأستاذ عبد الفتاح كيليطو..
نقرأ في الصفحة 93 :
أين صوتي؟
أين بـيتي ؟
منزل المحبوب عنوان المحب.
فهل يمكننا أن نعتبر المرقون المخفف المرقق ، على المتدارك غالبا ، في كتاب بوطرفاس ، إنما هو صوت السارد ، أو الراوي؟ سيرا على خطى أدونيس في “الكتاب”، الذي يأتي فيه صوت الراوي على هوامش الصفحات، على المتدارك أيضا؟!! فان لشاعرنا سارده الراوي كذلك ،كأدونيس.
وربما كان منظور شاعرنا بوطرفاس يختلف كليا عن موقف شاعر الغزل العذري ، في العصر الأموي، الذي يتبع المحبوب الحبيبة ، حيثما حلت وارتحلت، ويلازم منازلها المتحولة، متيما لا يبرحها، فكأنه يقول، عكس شاعرنا هشام : عنوانُ المحب حيث منزلُ المحبوب ، فهو تابع ،متبدل متحول؛ بينما لدى شاعرنا بيت المحبوب قائم دائم في الذات، والخطاب منه إليه، عنوان المرسل هو نفسه عنوان المتلقي المرسل إليه.
-9-
فشاعرنا بوطرفاس، هنا ، يتأمل صورته/صورتيه/ صوره في مراياه . هشام، كما قلت فيه قبل صدور كتابه هذا بمدة ليست قصيرة:
وهشامُ طفلٌ /صيادُ عزلته/ ضيفا على ضيْفين: مرآةٍ وعزلتِهِ / ويخلقها صورْ / يخدشها/ويخمشُها /خيالا أو فِكـرْ
هشامُ يهْشِمها..يفككها/يكسِّرها ويجْبُرها ..
لهذا، نجد لفظ المرآة ، والمريا، من المفردات التي تتكرر ، وتتردد ،مرّاتٍ عديدةً، في متن هذا الكتاب الشعري :
(وتورَّطْتُ طويلا في المرايا( ص5)-وتوددت لَعلِّي/ آدمُ آخر أو مرآته ص9-وحدة الطفل الذي تدهشه مرآته ص30-كيف سنفهمُ مرآة الله ص30..)
بل إن الشاعر، هنا ، يقف كما يقف طفل، أو شيخ، سواء؛ أمام المرآة المتشظية:
كيف شخصٌ عاقلٌ ينظر في مرآته
وينادي يا أنا
وحدةُ الشِّعرِ
انكسرتُ الآن كالنار
تشظَّيْتُ لكي يجمعني
عند الحنين الدفترُ/
وحدة الطفل الذي تدهشه مرآته( ص30)
ومقابلَ هذا الانكسار والتشظي، في المرآة ، أو في الذات ، يبحث الشاعر الطفل/الشيخ عن وحدته في الشعر، وحدة آدم أمام مرآته، ليفهم مرآة الله،كأنما الحب شوق وتوق وبحث لاستعادة حالة الاكتمال الأندورجينية الأولى الأسطورية، قبل الانشطار والتشظى..؛ كما لو كان آدم يُخرج من ضلعه أنثاه حبيبته ؛ سمها ليليث ، أو سمها حواء، أو سمها ليلى ، أو بثينة، أو بما شئت لكن شاعرنا لا يسميها ؛ نعم ، هو يقبِّلها، يعانقها، يحضنها.. يناديها/يناديه ؛ ولكنه لا يسميها أبدا؛ لأنها هي هو في المرايا ؛ [تسلب أشباحه، وأحلامه وتهديه أناه]كما في الصفحة الأولى من متن الكتاب.
-10-
لهذا، فإن الحب تعرٍّ، والتعري هو نفسه ستر وتستر وتغطِّ، فقر، عشب بدائي/نهائي، هو نفسه غنًى .وإذا كان في[ كتاب الحب] ،الطرفاسي هذا، لفظٌ أكثر وأشد تكرارا، فإنه لفظ العري ، بسائر تصريفاته وصيغه :
هكذا خالطتها في عريها /ص6- قدمي العري الإلهيّ الذي أبحث عنه/7-فقري الآن لحافٌ/7-هي ذي تغزل عريا/8-هكذا قالت وخاطت عريها/9-كيف لي أن أزنا/جرة العري، وكيف البحث عن شبّابة/وأنا عارٍ؟../ص10-تنسل منوهمستها عارية؟/ص11- إنها تخرج من نظرتها عارية؟/12-فقرك يسكنني- فقرك كالعري أصادفه- لتكن فقري/لتكن عريي/الوردة تتعرى إن عشقت- عاريا كان وكانت تنتقي/من شقوق الروح عشبا/ص19- عاريا كان وكانت ثوبه/20
عاريا كان وكانت عارية /21..ألخ
ورغم هيمنة مفردات العري والتعري وطلبه، عشبا ،غنى وفقرا؛ ورغم أن الشاعر يكاد ينحت المحب- المحبوب تمثالا ، أو أيقونة عارية ؛ فإن هذا الخطاب الشعري يظل أبعد ما يكون عن أية نزعة إيروتيكية استعرائية، وعن أية نزعة من الإثارة الجنسية ، ويبقى كأنقى ما يكون الخطابُ خطابَ غزل عذري رمزي مثالي، [فما العري إلا مقصُّ الروح لتشذيب الرؤيا]ص48.
نعم، إن الشاعر، بقدر ما يجسدن، أو يبدنن ، ويعري العشب البدائي ( أهو عشب ذاك المثلث المعلوم؟) ؛ فإنه يغطي، ويستر ، يُلبسُ العري لباسا، واللباس عريا؛ بقدر ما يجسد، فإنه يرمز، ويرمِّز ويجرد؛ نجده يقول (ص 33): الرمز هنا وهناكَ../ولا أسلم من طيش الرَّمزِ ونزوته، ويقول (ص 34): “دوريَ، الآن ، اكتشاف الرمزِ/أن أفحص كالشاعرِ أفقا/ أن تنام المدن / كلها في صورةٍ أو نغمةٍ”.
-11-
فهذا كتاب شعري في الحب ؛ كتاب الحب، كما” طوق الحمامة” للأندلسي ابن حزم، و”مجنون إلزا” للفرنسي لوي أرغون، و”كتاب الحب” للسوري نزار قباني ، و”كتاب الحب” للمغربي محمد بنيس(1995).. و لكن” منزل المحبوب..” كتاب فريد مختلف ، كما هو كل منها فريد مختلف عن الأخرى.
هل هو كتاب في الحب من منظور رومانسي؟
لا شك أن فيه وترا رومنسيا مسموعا محسوسا ؛ لكنه أبعد ما يكون عن تلك الرومانسية الفجة المبتذلة الباكية المتشكية . فالرومانسية ، وإن انتهت كمذهب فني وشعري، إلا أنها لا تموت أبدا، وتظل تطل، بعينها الثورية الفنية ، من وراء كل خطاب حداثي ، في الشعر كما في مختلف الفنون.. وإن موضوعة الحب ، خالصةً، هي الموضوعة الأثيرة لدى الرومانسيين ؛ فالحب لديهم يختصر كل العلاقات والأبعاد الوجودية الانسانية والاجتماعية ، ويعبر عن مركزية الأنا الرومانسي وغربته ، وغنائية الخطاب الشعري ، وعن تلك الشمولية الشعرية أو الفنية، التي تجعل رؤية الشاعر تشعرن الكون والحياة والوجود، وتجعل الذات والأنا في مواجهة المجتمع والآخر والكون والوجود. كل ذلك من منطلق الرفض والتمرد، قبل الانكسار والهروب.
ولكننا ، وإن وجدنا آثار كل ذلك، وبقايا ذلك النغم والغناء والنشيد الرومانسي ، غير أن الشاعر لا يعبر عن أي رفض علني، أو غير علني، للمجتمع وقيمه، ولا عن أي تمرد ؛ وإنما عن بحث وتوق لذلك الحب الخالد، والشوق العائد الذي كان يعبر عنه الشاعر الأبولولي الرومانسي البِرناسي الرمزي المصري ،الملاح التائه ، شاعر الحب والجمال، علي محمود طه .. ولكن ليس لدى شاعرنا بوطرفاس ما نجده لدى هذا الشاعر النهضوي من تلك النزعة الأبيقورية التي قد نجد منها قديما ، في العصر الأموي ، شيئا شبيها لدى شاعر الغزل المادي (الإباحي!) عمر بن أبي ربيعة.
-12-
ولكننا نجد أثرا، ونسمع وترا.. من الغزل العذري العفيف أو الروحي، الذي يتوق فيه الشطران / الجسدان ، والروحان المبعدان، إلى الذوبان في وحدة الروح . ونقرأ أسماء بعض أولائك الشعراء الغزِلين وحبيباتهم، كقيس وليلى ، وجميل- بثينة ، بينما شاعرنا لا يسمي، أبدا محبوبه /حبيبته. وإن رؤيا شاعرنا، في هذه الثنائية ، تكتسي من الخصوصية والطرافة ما يميزها عن منظور الشاعر العذري الأموي؛ فالجسم لدى بوطرفاس معبد ، بل معابد ؛ فلنستمع إليه ينشد من صَلاتِه (التي لا ندري لمَ يضعها بين المعقوفتين، في إطار الخط المرقق المخفف):
[ألمسُ جسمكِ /أومنُ أن الجسم معابدُ/لم تفهمْ بعدُ/وأن الكاهنَ لم يرفع مِبْخرةً/باسم الحبِّ/وأن الكاهن، هذا الماكرَ/لم يُفسحْ أبداً عنْ أسرارِ سماءٍ
كان التّـدليسُ صلاةً./كان التَّبْخيسُ صلاةً./كان الليلُ يخيِّم/ كانت خيمة في الروح تعشِّشُ./هذا الجسمُ تفتَّتَ كالطينِ/ لم نعرف سيرته ] ص:36-37.
ولا نكاد نجد من عبر عميقا عن هذا المستحيل المحال ..؛عن هذ العطش اللا يرتوي بالعناق والتقبيل.. الذي عبر عنه بوطرفاس، إلا شاعر من خارج دائرة الشعراء العشاق الغزلين، هو العباسي ابن الرومي في هذه الابيات الأربعة المدهشة :
أعانقها والنفسُ بعدُ مشوقةٌ
إليها وهل بعد العناق تداني
وألثَمُ فاها كي تموتَ حزازتي
فيشتد ما ألقى من الهيمانَ
وما كان مقدار الذي بي من الجوى
ليَشْفِيَهُ ما ترشُفُ الشَّفَتانِ
كأنَّ فؤادي ليس يَشْفي غليلَه
سوى أنْ يرى الروحَيْن يمتزجانِ
وإذاكان شاعرنا، كما أسلفنا ، يرفع خطاب الحب ،تصريحا ، الى مستوى الرمز ؛ فإن الحب العذري ظل أصحابه ، وصناع قصصه وحكاياته، يضفون عليه من تمويهات مظاهر ودلائل ووقائع السير الشخصية، أو الأبعاد البيوغرافية ، أو الأوتوبيوغرافية، ما احتيج معه ، حديثا، إلى مناهج ودراسات ومقاربات مختلفة ، بدءً من طه حسين ، الى السوسيولوجي التونسي طاهر لبيب، إلى الناقد يوسف اليوسف .. لإخراجه من مباشرية الخطاب إلى غنى رمزيته ، كخطاب وظاهرة احتجاج رمزي ضد الحرب وسلطة الدولة والدين والمجتمع في قمع الحب بالحرب، وتكبيله في مؤسسة فقه الزواج وأعرافه..
-13-
غير أن شاعر” بيت المحبوب” يتجاوز، في ما أرى ، كلا من الخيال الغزلي العذري، في بيوغرافيته ، أو في رمزيته ،و خيال الحب الرومانسي في غنائيته ،أو في تمرده،أو في غربته ، أوفي أبيقوريته، إلى آفاق شعرية روحانية صوفية ، تمتح من عوالم واستعارات ورمزية أعلام أو معلمي الروح مثل بوذا و كريشنا ، والإلهة رادْها، ربما على لسان السارد الشعري في هذا الكتاب الشعري القائم على التشكيل ،وتعددية الأصوات في الصوت الواحد، والمرآة المتشظية مرايا وصورا :
هي ذي رادْها تصلِّي/ لم تعد تعجبُ بالعقد/وبالؤلؤ في الماء / وبالماس…… ص:99
[فكر كريشنا كثيرا في غبار السفرِ/ وجراب الضجرِ.
فكر كريشنا ولم يسلم طويلا/من سهام السهرِ..ص:100
إلا أن الحضور الأكبر إنما هو للشيخ الأكبر، محيي الدين بن عربي، صاحب ديوان “ترجمان الأشواق” ، الذي نجد استحضاره، أو الإحالة عليه ،بشكل مباشر، أو غير مباشر، في أكثر من موضع في هذا العمل الشعري الفريد:
[.. وفمي يلبسُ صوتكِ،/يلبس وقتي وقتكِ/تصبح للحب معانٍ/أعمق من لون البحر/ومن لون الأرض.
أرى الشيخ الاكبر في رؤيا الحبِّ،/يعلمني أن الحب منام آخرُ للروحِ./يعلمني أن الوردةَ مرآة الله..]ص:42.
[سيقول الشيخ الأكبرُ:/ في الحبِّ : الوصل / الوصلُ: حجابٌ،/ العري/الستر حجابٌ./ كيف الوصلُ وقلبك ينأى في الحبِّ؟ ص: 56
وتترى الأسئلة الأكبرية والأجوبة الشعرية ، في مواضع كثيرة من كتاب بوطرفاس، ليس فقط من حيث الوحدة وراء الثنائيات.. أو تجريد و ترميز الكون والوجود والحب والكتابة ؛ ولكن إلى أن يغدو الكون أنثى :
[سيغدوالكون أنثى./ كلما انفجرت عواطفنا،/سنبصر كل شيءٍ حولَنا انثى..
وبعد:
ليس لنا أن نخرج من هذه الكتابة عن المحبوب، التي[ ِكما لو كانت وشما على جلد غزال..والتي يسرع الصوت منها إلى الروح كنشيج الماء في ساقية]:ص46-47 ؛ ليس لنا ان نخرج من هذه الرحلة السنفونية في الحب، بعدما رأيناها” هكذا” :عناقا وتقبيلا وتعريا/تغطيا بالعري الإلهي ؛ وحدةً في الجسد والروح في الكون الذي يغدو أنثى حتى يُعوَّل عليه ،؛ ليس لنا أن نخرج إلا كما يخرج الشاعر راجعا عائدا إلى نفسه ، في هذه القفلة الجميلة على البسيط، وأحْسِن بها قَفْلةً و حسنَ ختام :
ها قدْ رجعتُ إلى نفسي أكلِّمُها
فالحب مثلُ صلاةٍ عشتُ أتلوها
صوتي يمر على روحي
ويحسبها صمتا يئنُّ
جرارا تخزن التيها.
كشاعِرٍ كنتُ في الرؤيا قدِ ارتعشتْ
أحلامهُ،
ورأى في الحلم سيِّدةً
تُعِدُّ صوتا لهُ حتَّى يُنادِيها! ص:142-143.
صفرو- الاثنين 28 أبريل 2025 .
*”منزل المحبوب عنوان المحب”: ( شعر) – هشام بوطرفاس-دار بصمة للنشر والتوزيع – الطبعة الأولى 2024.
** كنت قدمت ملخص هذه القراءة حديثا شفهيا ، في حفل توقيع هذا العمل الشعري الذي كانت نظمته جمعية “شبكة تنمية القراءة بصفرو” ، بتاريخ :السبت 19 أبريل 2025، في اطار الإحتفال المفتوح باليوم العالمي للشعر وربيعه ؛ شاركت فيه إلى جانب كل من الأديبين الباحثين :الدكتور إدريس بومعقل ، والدكتور عبد الفتاح الإدريسي البوزيدي ، وسير جلسته الصديق الأديب الباحث الدكتور محمد الطوبي.