وزارة الداخلية تُشَدِّد الخناق على أعوان السلطة: مرحلة جديدة في مواجهة الفساد المحلي

باشرت السلطات الإقليمية، خلال الأيام الأخيرة، حملة واسعة وغير مسبوقة لتوقيف عدد من أعوان السلطة، من شيوخ ومقدمين، بعد رصد تقارير تشير إلى تورطهم في التغاضي أو حتى تسهيل عمليات البناء العشوائي. التحرك الأخير لم يكن مجرد ردّ فعل ظرفي، بل يأتي في سياق توجه استراتيجي جديد داخل وزارة الداخلية، يقوده الوزير عبد الوافي لفتيت، ويرتكز على الحزم والصرامة في التعامل مع ملفات الفساد المتصلة بالتعمير.
التحقيقات التي باشرتها لجان تفتيش تابعة لأقسام الشؤون الداخلية كشفت عن وجود “ملفات سوداء” تورّط مجموعة من الأعوان في ممارسات غير قانونية، سواء عبر التستر على مخالفات تعميرية، أو من خلال تقديم تسهيلات لمضاربين وسماسرة العقار في خرق واضح للمقتضيات التنظيمية والقواعد البيئية. وتؤكد المصادر أن هذه الممارسات لم تكن وليدة اللحظة، بل تراكمات عجزت بعض الأجهزة المحلية في السابق عن ضبطها، بحكم تشابك المصالح ونفوذ شبكات تستفيد من فوضى التعمير.
الذي تغيّر اليوم هو أن وزارة الداخلية قررت قطع “الخيط الرفيع” الذي كان يسمح بمرور بعض الخروقات تحت مبرر الأعراف أو “المرونة الميدانية”. فالإشراف المباشر لرؤساء أقسام الشؤون الداخلية على العملية يؤكد انتقال الملف من مستوى محلي محدود إلى إطار مركزي صارم يربط المسؤولية بالمحاسبة. وهذا ما يُفسّر أن التحقيقات لا تتوقف عند توقيفات أولية، بل تتواصل لتشمل أسماء أخرى قد يثبت تورطها أو تراخيها في أداء المهام.
الرسالة الأبرز التي تبعثها وزارة الداخلية اليوم للرأي العام هي أن مرحلة “غض الطرف” انتهت، وأن الزمن الذي كان فيه بعض أعوان السلطة يشتغلون بمنطق “النفوذ الصغير” أو “الامتياز الميداني” أصبح من الماضي. فالإدارة الترابية، التي يعتمد عليها المغرب في تنزيل السياسات العمومية، لا يمكن أن تتحمل استمرار جيوب الفساد داخل بنيتها، خاصة في قطاعات حساسة مثل التعمير الذي يترتب عنه تأثير مباشر على الفضاء العام، البيئة، جودة العيش، والاستثمار.
كما أن هذه الإجراءات تعكس توجهاً نحو ترسيخ الشفافية داخل المنظومة الترابية، وإعادة الاعتبار لدور أعوان السلطة الحقيقي: مراقبة المجال، حماية القانون، وضمان احترام المساطر. ومن الواضح أن الوزارة تسعى إلى خلق نموذج جديد يقوم على المهنية والانضباط، بعيدًا عن كل الممارسات التي قد تسيء لصورة الدولة أو تمسّ بثقة المواطنين.
إن ما يجري اليوم ليس مجرد حملة تأديبية عابرة، بل مسار إصلاحي عميق يُراد منه إعادة بناء علاقة أعوان السلطة مع المجتمع على أساس الواجب والمسؤولية، لا على أساس الامتياز والسلطة الرمزية. وهو توجه يتماشى مع التحولات الكبرى التي يعرفها المغرب في مجال الحكامة، محاربة الفساد، وتحديث الإدارة الترابية.
باختصار، وزارة الداخلية تُعلن بوضوح أنها لن تتسامح بعد اليوم مع أي انحراف إداري، وأن حماية المجال العمراني من الفوضى أصبح أولوية وطنية لا تقبل التردد. مرحلة جديدة بدأت، عنوانها:
القانون فوق الجميع… والمحاسبة قادمة حيثما وُجد الفساد.




