صفرو

نجيب أتريد اليازغي يكتب : المتشردة (3)

… يا ويلي.. !ماذا سأقول للناس؟ وماذا سأقول لأعمامي؟ حتى لو قلت لهم الحقيقة فلن يصدقوني. سيظنون بأنني فعلت ذلك طوعا وكذبت عليهم لأخفي خطيئتي. إذن فما بقي لي إلا أن أحبس سري داخل صدري وأعيش همي لوحدي. كنت أموت في اليوم الواحد ألف ميتة. لقد عشت أسوأ أيام حياتي وكاد الخوف أن يقتلني. لم أعرف طعم النوم بسبب الكوابيس التي لم تكن تبرحني.

   ومع مرور الأيام بدأت ألاحظ انتفاخا ملموسا في بطني، كان الانتفاخ يزيد يوما عن يوم، وشهرا عن شهر حتى لاحظ ذلك كل أفراد العائلة، فما كان مني إلا أعترف بالحقيقة؛ لكن هيهات.. !من يصدقني؟ لقد أكلت في يوم واحد ما لم يأكله الطبل في شهور! تلقيت الضرب والشتم والإهانات، وبعد ذلك قاطعني الجميع. لقد وضعوني في ركن من أركان الزريبة مع الأغنام والكلاب. كانوا يضعون الطعام أمامي ثم يسارعون في إغلاق البوابة كما لو كانوا يتعاملون مع كلب مصاب بالجرب. لم أكن أميز بين الأيام والشهور، بحيث كانت كلها مثل بعضها. وفي ليلة حالكة الظلام، أتاني المخاض ففهمت بأنني كنت في شهري التاسع. لم أتحمل الوجع، فبدأت أصرخ وأستغيث بالله ولكن لم يكن يسمعني أحد. في تلك اللحظة شعرت بأن الأغنام والكلاب والقطط هم عائلتي الحقيقية. على الأقل كانوا بقربي يسمعون صراخي وينظرون إلي، فكنت أحس بعطفهم وحنانهم دون أن ينطقوا بذلك. أما أفراد عائلتي فلم يأتوا لنجدتي إلا في الدقائق الأخيرة مثل مجيء بوليس الأفلام. كنت حينها قد وضعت مولودي الذي لم أره قط في حياتي والذي لم أسمع منه إلا صرخته الأولى، بحيث أخذوه مني وأعطوه لأسرة في المدينة لتتكفل به. أما أنا فكان مآلي الطرد من المنزل ومن القرية كلها. تهت في بلاد الله الواسعة.. تكففت الناس.. بت في العراء وفي أبواب المساجد.. كنت كلما دخلت قرية طردت منها إلى أخرى وهكذا دواليك إلى أن وصلت إلى هذه المدينة، فبقيت أتشرد في شوارعها ودروبها. كان فراشي التراب وغطائي السماء، آكل مما يتكرم علي به المحسنون وألبس مما يجدن به علي المحسنات.. انكتم الصوت وسكت الكلام وانهمرت الدموع من عينيها بغزارة مثل حبات المطر. العم حمزة نفسه لم يجد كلاما يقوله لها. هل يعزيها في ابنها الحي والميت في آن واحد، الحاضر في قلبها وعقلها والغائب عن عينيها، أم يحثها على تحمل حياة لا تستطيع تحملها حتى الحيوانات في الغابات والإسطبلات؟ تركها في الغرفة لوحدها ثم خرج متعثرا في أهداب جلبابه الصوفي إلى زوجته وقال لها: “إعطها ما تشاء من طعام ولباس ثم اطلبي منها أن تأتي في أي وقت احتاجت فيه لشيء!” 

    غادر العم حمزة المنزل وهو يكلم نفسه كمجنون غير عابئ بمن يمر بجانبه: “ما هذا؟ ما هذه الحياة وما هذا العبث؟ أبالبنايات الشاهقة والشوارع المبلطة تقاس الحضارات؟ أم بالسلوك الحضاري والأخلاق الإنسانية والعدل والمساواة..؟ فأين المسؤولون؟ أين المجتمع المدني؟ وأين الضمائر الحية وكل الفعاليات التي تكون المجتمعات؟ ألا يرون؟ ألا يحسون؟ أم ماتت الضمائر الحية ومات معها كل شيء! !؟ نعم لقد مات كل شيء.. مات.. مات.. !ولكن .. لا.. لا.. بل هناك أمل.. هناك أمل.. هناك.. هناك.. !!ثم تابع العم حمزة طريقه لا يلوي على شيء حتى اختفى عن الأنظار.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WeCreativez WhatsApp Support
فريق صفروبريس في الاستماع
مرحبا