العالم

محمد الأمين بلغيت… من بوق للنظام الجزائري إلى سجين بسبب “زلّة لسان” تلفزيونية

في مشهد يختزل عبثية السلطة في الجزائر، وجد محمد الأمين بلغيت، المؤرخ الرسمي والناطق الإعلامي باسم المؤسسة العسكرية الجزائرية، نفسه خلف القضبان بعد أن أدلى، خلال مقابلة على قناة Sky News Arabia، بتصريحات تتماشى تمامًا مع الخطاب الرسمي التاريخي للنظام حول الأمازيغية… لكنه نُكّل به وكأنه خرق “الخط الأحمر”.

في الأول من ماي، صرّح بلغيت أن الأمازيغية “مشروع إيديولوجي صهيوني-فرنسي بامتياز”، وأن “البربر في الأصل عرب”، في تأكيد متجدد لخط فكري تبنّاه التيار “العروبي-الإسلاموي” منذ 1962، والقائم على إنكار التعدد الهوياتي في الجزائر.

لكن ما لم يتوقّعه بلغيت، الذي لطالما اعتُبر صوت النظام المُطيع في وسائل الإعلام الرسمية كـEl Moudjahid، هو أن تصريحاته هذه ستُعتبر، فجأة، “إساءة للوحدة الوطنية” و”مساسًا بمكوّن أساسي من الهوية الجزائرية”، حسب ما ورد في بيان النيابة العامة الجزائرية.

عندما يصبح تكرار خطاب الدولة جريمة

بلغيت لم يكن يبتدع شيئًا جديدًا. منذ الاستقلال، سعت السلطات الجزائرية إلى طمس الوجود الأمازيغي، معتبرة أن الاستعمار وحده هو من اخترع “القضية البربرية”. أول وزير تعليم بعد الاستقلال، عبد الرحمان بن حميدة، أعلن صراحة أن “البربر من اختراع المبشّرين البيض”.

بل إن النظام، بعد انقلابه على الحكومة المؤقتة عام 1962، ألغى تدريس اللغة القبائلية، ووصف الحركة الأمازيغية بأنها انحراف “عنصري” و”انفصالي” يهدّد وحدة الدولة.

التناقض: النظام يحاكم صدى صوته

محمد الأمين بلغيت، الذي لطالما ردد “أمجاد” مليون شهيد و”أسطورة” 45 ألف قتيل في أحداث سطيف، لم يكن يعلم أن تلك الآلة الدعائية التي كان يخدمها ستسحقه عند أول خطأ محسوب سياسيًا.

في سياق صراع الأجنحة داخل النظام، أصبحت تصريحاته محرجة، وأدّت إلى اعتقاله ككبش فداء، في وقت يعاني فيه النظام من عزلة إقليمية ودولية غير مسبوقة: قطيعة مع المغرب، علاقات متوترة مع فرنسا، خلافات مفتوحة مع مالي، النيجر، بوركينا فاسو، ومعظم الدول العربية.

وما زاد الطين بلة، أن قناة ENTV الرسمية شنت هجومًا غير دبلوماسي على الإمارات العربية المتحدة – الدولة التي استضافت المقابلة – ووصفتها بتكرار لافت بـ”الدولة الميكروسكوبية المصطنعة”، في تصعيد جديد يعكس تخبّط الدبلوماسية الجزائرية.

مأساة “البوق المطيع”

هكذا انتهى بلغيت، المؤرخ الذي كرّس حياته لخدمة رواية الدولة، في زنزانة، ضحية نظام لا يتردد في التضحية بأوفى جنوده حين تتغير المزاجات السياسية.

قضيته ليست مجرد سقطة إعلامية، بل مرآة لأزمة هوية عميقة، ولصراع سلطة يخنق حرية التعبير، حتى داخل أروقة النظام نفسه.

بلغيت لم يقل أكثر مما قاله النظام طيلة ستين عامًا، لكن يبدو أن قول الحقيقة، حين لا تناسب حسابات الحكم، يُصبح خيانة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى