المغرب

متى يحرم إعطاء الرشوة ومتى تجوز والإثم على آخذها

بانقداح الشيخ المقرئ عبد اللطيف بوعلام الصفريوي.
أولا، فلِنستهِل المقال بهذا التنبيه لمحبي الاختصار في هذه الأمور الشائكة والبالغة خطورة في الفتوى باعتبارها توقيعا عن الله ونيابة عنه في التحليل والتحريم، وفك الإشكالات المستحدثة والطارئة، فالرجاء منهم عدم الولوج إلى مقالاتي إن كانوا يرون فيها إسهابا طويلا في عدم وجود الوقت الكافي لقراتها كلها، ولقد حذرتهم من مغبة الدخول إليها في العديد من مقالاتي الجادة التي أتعب في تحبيكها والعجب يذهلني في جلوسهم في المقاهي وأماكن اللهو بالساعات وهم يذرعون هواتفهم في الفضائح والتفاهات.. آه.
ثم؛ فلنبدأ على بركة الله في فك رموز هذه الظاهرة الخطيرة.
لا مين ولا شك في أن الرشوة حرام في جميع الكتب السماوية، وهي مسألة محسومة ومفهومة عند الأميين فبالأحرى العارفين، وهي من الكبائر التي يُحذر منها بشدة وقوة لأنها تؤدي في نهاية المطاف إلى فساد كبير في الأرض وظلم حاد ينتهي به المسار إلى تحريف العدالة عن مبادئها السامية وخلق الفوضى العارمة، وتعمل على تهديد قيم الأمانة والنزاهة وظلم الأفراد والمجتمعات.
قال عز من قائل بسورة البقرة:
“وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ” (188).
هذه الآية تشير إلى جميع التعاملات غير الشرعية والمشبوهة للسطو على مال الغير بغير حق، ومن بينها آفة الرشوة الحالقة التي صارت محللة باعتبارها قهيوة تقدم لقضاء المصالح.
لقد ورد في السنة النبوية المطهرة حديثا مزمجرا في هذه المسألة من أن رسول الله صلى الله عليه قال: ” لَعَنَ الله الرَّاشِيَ، وَالْمُرْتَشِيَ، وَالرَّائِشَ الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا “. رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده تحت رقم: (5/279) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
فالراشي هو من يُعطي الرشوة، ومن يأخذها هو المرتشي، ومن يسهّلها أي: الوسيط هو الرائش، وهم جميعًا ملعونون على لسان علم الهدى الذي لا ينطق عن الهوى، واللعن هو الطرد والخروج من رحمة الله كما فُعِل بعدونا وعدو الله الشيطان الرجيم ترى معناه مبثوثا بجلاء في سورة النساء في قوله تعالى بها: * إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا •لَّعَنَهُ الله وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا: 117/ 118.
وإعطاء الرشوة محرم حتى ولو كانت بهدف تسهيل معاملة أو الحصول على حق مشروع. وأصعبها جُرما هو أخذ حق الغير كيفما كان هذا الحق..
والسؤال الذي يطرح نفسه متى تكون الرشوة مُستسْهَلة والإثم على قابضها؟
قد لا تُعجب هذه الرخصة عرمرما من المتزمتين والعلماء النصيين الذين لا يراعون أحوال الناس لرفع الحرج والضيق عنهم، وهي ما اصطُلِح عليه بالضرورة الإلجائية لإنقاذ حالة في وضعية حرجة، فمثلا ذهبت بأمك إلى المستشفى وهي تعاني من مغص في معدتها وألمٍ حاد شديد، وأردت ولوج قسم العلاجات، فمنعك الحارس بحجة عدم توفرك على موعد أو وجود الاكتظاظ الصارخ، وحاولت معه بشتى السبل، فلم يُجد ذلك نفعا بالرغم من تصايحك معه واحتجاجك على سلوكه المشين، فأتاك الحل من أحد المجربين وأشار عليك برشوته، وحذرك من التصعيد والتصايح معه لأنه لربما قد يؤدي بك الحال في النهاية إلى ما لا يُحمد عقباه، فما عساك أنت فاعله وأمك أمامك مجندلة تقاوم آلامها المتضاعفة، لابد من أن تجد حلا لهذه المعضلة، فما عليك في نظري إلا أن تدس في يده تصافحا مبلغا من المال_ إن رضي به في جيبه _ فتقضي حاجتك، وليقل لي شِي بَّا عَرُّوفْ لن يفعلها مضحيا بأمه التي لقمته ثديها، وسقته من لبنها، واحتضنته نائما في صدرها إلا أن يكون مختلا عقليا مُخاطرا بمستقبلها. هذا فقط نموذج، والحالات في أخذ حقوقك كثيرة من أن تُحصى، لأن الرشوة المحرمة بحسب اطلاعي وتطوافي المتواضع في الكتب الدينية زهاء ثِنتين وأربعين سنة بالكمال والتمام هي أخذ ما للناس بالباطل والتحايل عليهم بشتى السبل لانتزاع ما تريده منهم بشهود الزور، وتزوير الوثائق، وغيرها من الإثباتات الكاذبة للسطو على الممتلكات تشريدا للعائلات ومسببا لهم في إذايات مباشرة وغير مباشرة، والذين سيعيبون علي هذا الترخيص هم عن الجادة لناكبون لأن قاعدة وحكم الضرورة الإلجائية منسكب على إجازة الحرام بقدْره كما هو مُرَخص له بسورة النحل لدى قوله عز وجل: { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرالله بِهِ، فَمَنُ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ (115)}.
والمعنى أن مَن ألجأته ضرورة الخوف من الموت إلى أَكْل شيء مِن هذه المحرمات المذكورة وهو غير ظالم، ولا متجاوزٍ لحدِّ الضرورة، فإن الله غفور له، رحيم به، لا يعاقبه على ما فعَل.
ومن أمثلة هذه الضرورة أن امرأة نزلت بقرية أو مدينة لئيمة ولها طفلان، فطلبت أن تشتغل لسد رمق فِلْذَتَيْ كبدها، فلم تحصل على عمل يمكِّنها من إيوائهما وإطعامهما، فقيل لها لا تحاولي مع هؤلاء الخبثاء، فلن يعطوكِ شيئا إلا إذا فسقوا بك، فأفتِها يا صاحب العمامة وأنت متدلي البطن في أفخم الفيلات والفنادق وأغلى المراكب بالحرمة حتى تَهلك هي وابنيها.
فالصواب إذاً يقتضي تسليم نفسها للفاحشة عن كُره بقدر ما تسد الرمق، وهي في بحث وتنقيب دائم عن مكان آمن وطاهر.
ومثال آخر أكثر وضوحا، لنفترض أنه نودِي عليك في ظرف وجيز لعمل أو وظيفة أنت في حاجة ماسة لها وأنت بطَّال معدَم ردحا من الزمان، وتفقدت جواز سفرك، فألفيته منتهي الصلاحية، فقيل لك من أحدهم يتعذر علينا إنجازه في أقل من أسبوع نظرا للإجراءات المعهودة، فبقيتَ تنتظره حتى فرغ من عمله، وحكيت له استعجالك في الجواز وظروفك العائلية المزرية واستعطفته، فأجابك بالمستحيلات الثلاث، فأسررت له بعمل المجهود، فكلفك بإحضار ثلاثة آلاف درهم ليقتسمها مع إخوانه لتسريع الملف عبر الشاوش تنقلا بين المصالح المختصة بذلك، وتفاوضت معه، فلم تُجْد توسلاتك واستعطافاتك المتكررة بشتى الأدعية إلى حد البكاء والنحيب نفعا ولا سيما وأن العمل سيطير منك، وتبقى في العطالة أبد الدهر. الحل هو لابد من السلف ولو من الربا _ إن لم تجد من يقرضك لقضاء مأربك.
والأمثلة في ذلك كثيرة لأن المجتمعات الآن قد غزتها هذه الظاهرة، وأصبحت معمولا بها على جميع الأصعدة لأنه بدهن السير الأمور تسير كما يقولون…
والعلاج يكمن في إعادة تشكيل المنظومة الفكرية العالمية لتحقيق المساواة والعدالة فدونكم والبيان.
وقبل الختم لابد من إيراد حديث وحادثة وقعت في عصر النبي صلى الله عليه وسلم تهم الخدام والموظفين المؤتمين على العباد في تقبل الهدايا منهم.
إذ الأصل في الهدية التي يتقاضاها الموظف بسبب وظيفته وعمله أنها حرام، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ) أي رشوة وحياد عن الصواب وعمل شنيع. الحديث رواه الإمام أحمد (23090). والواقعة مفادها أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل رجلاً على الصدقة ( من جباة الزكاة )، فجاء الرجل بمال وقال: هذا لكم، وهذا أُهدي لي، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا) رواه البخاري (7174) ومسلم (1832). فهذا الحديث يبين سبب الهدية، وأنها بسبب عمله، ولهذا كان قبولها محرما يشهد لذلك ما رواه أَبو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنَ الْأَسْدِ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ – قَالَ عَمْرٌو، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَةِ (أي جباية وجمع الزكاة – فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ الله، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: ” مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ، حَتَّى يَنْظُرَ، أَيُهْدَى إِلَيْهِ، أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعِرُ “. ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ” اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ “. مَرَّتَيْن.
وأنهي الكلام بعد هذا البيان بطرفة وقعت لي مع أحد الإخوة بديار المهجر يسألني عن تعذر وجود عمل بتلك الديار إلا بعصر الخمر في أحد المحلات لإعالة العائلة، فأفتيته بالضرورة الإلجائية للعمل مع التنقيب المستمر عن الكسب الحلال لأن النبي صلى الله عليه لعنه وأخرجه من رحمته طبقا للحديث الوارد عن ابْن عُمَرَ قال: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: ( لَعَنَ الله الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ ). الحديث صححه الألباني في صحيح أبي داود.
وفي حديث آخر رواه الترمذي (1295) عَنْ أَنَسِ بْن مَالِكٍ قَالَ: ( لَعَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي الْخَمْرِ عَشْرَةً عَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَشَارِبَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةُ إِلَيْهِ وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا وَالْمُشْتَرِي لَهَا وَالْمُشْتَرَاةُ لَهُ)، واللعن هو الطرد والخروج من رحمة الله كما هو مبيَّن من ذي قبل. ثم تبادر لذهني أن أسأله، فقلت له: قل لي بالله عليك عندما تعصر الخمر ألَا يستهويك الشيطان في شرب كأس منها أو اغترافه بيدك، فقال لي: مرة مرة أفعل ذلك أيها الفقيه، فاستشطت في وجهه غضبا، ولعنته لارتكابه ذنبين ظاهرين خيانة أمانة العمل ولو كان حراما بموجب العقدة المبرمة بينهما ( أعني صاحب المحل والعامل )، وشرب الخمر محرم بنص الآية المعلومة لدى الجميع، وهي قوله تعالى بسورة المائدة: * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَل الشَّيْطَان فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصَّلَاةِ، فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ (91) *، ثم ختمت معه الكلام بأنه سفيه غاص في الحرام متوعدا إياه بعدم الاتصال بي حتى يتوب ويؤوب إلى جادة الصواب، وبه وجب الإعلام والسلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WeCreativez WhatsApp Support
فريق صفروبريس في الاستماع
مرحبا