العالمالمغرب

لا غالب ولا مغلوب… بين دلالة العبارة وخطأ التأويل

في خضم التفاعل مع الخطاب الملكي الأخير بمناسبة عيد العرش، برزت تأويلات متعددة لعدد من العبارات المفتاحية التي وردت فيه، كان أبرزها ما أثار الصحافي يونس مسكين، حين قال إن عبارة “لا غالب ولا مغلوب” لا علاقة لها بملف الصحراء المغربية، بل ترتبط بالقضايا العالقة مع الجزائر. هذا التأويل، وإن أصاب جزئيا، إلا انه وقع في خطا تحليلي جوهري، من منظور ادوات تحليل الخطاب السياسي واللغوي.

من حيث تحليل السياق الخطابي، فإن العبارة جاءت ضمن فقرة محورية، تؤكد فيها الدولة المغربية تمسكها بمبادرة الحكم الذاتي كحل وحيد للنزاع في الصحراء المغربية، وتشيد بالمواقف الدولية الداعمة لها. بعد هذه الفقرة مباشرة، وردت العبارة:*نؤكد حرصنا على ايجاد حل توافقي، لا غالب فيه ولا مغلوب، يحفظ ماء وجه جميع الاطراف*.

بالتالي، فإن الوحدة الموضوعية للنص لا تسمح بفصل العبارة عن ملف الصحراء المغربية، اذ لم ينته الخطاب بعد من هذا الموضوع حين استخدمها. بل إن العبارة جاءت كخاتمة لصياغة دبلوماسية، تجمع بين الصرامة في التمسك بالسيادة، والمرونة في العرض السياسي.في تحليل البنية اللغوية لعبارة “لا غالب ولا مغلوب”، نرصد استعمالا لما يسمى في البلاغة العربية بـالتوازي الانكاري. وهي صيغة تستعمل لنفي الاستقطاب وتهدئة المواقف الحادة.

هذه الصيغة، حين توظف داخل خطاب سياسي، تؤدي وظيفة تلطيف النزاع دون تقويض الحق، وتستعمل لتقديم المبادرات بمرونة، تحفظ ماء الوجه للاطراف الاخرى، دون ان تمس جوهر الموقف السيادي.

يونس مسكين كان محقا في نفي فكرة ان المغرب يقبل بالتنازل عن الصحراء المغربية، وهذا ما أكدته جميع فقرات الخطاب الملكي. لكنه في المقابل، وقع في تناقض تحليلي، حين عمد الى عزل العبارة عن سياقها الاصلي، وقرر ربطها بملفات أخرى، كالحدود، التعاون الاقتصادي، الخ… دون أن يدعم ذلك بسند من متن الخطاب.

تحليل الخطاب لا يبنى على ما قد يكون في ذهن المتحدث، بل على ما هو مصرح به لغويا وسياقيا. والملك، في خطابه، وخصوصا في الفقرة التي تضمنت العبارة، بدأ بـ”بقدر”، ثم كررها بدون واو، حتى تبقى ضمن سياقها. فمحاولة عزل عبارة “لا غالب ولا مغلوب” عن سياق الصحراء المغربية، تمثل تأويلا تعسفيا يفتقر إلى الأساس اللغوي والمنهجي، ويتجاهل الادوات المعتمدة في تحليل الخطاب السياسي.

فالربط النحوي الواضح، من خلال تكرار أداة “بقدر”، يربط بين الاعتزاز بالمواقف الدولية المؤيدة لمبادرة الحكم الذاتي، والتأكيد على الحل التوافقي، مما يمنح العبارة اتساقا دلاليا داخل نفس الوحدة الموضوعية. كما أن التسلسل الموضوعي في الخطاب، لم يشهد أي انتقال إلى قضية أخرى، بل ظل متمحورا حول نزاع الصحراء المغربية، دون وجود فاصل لغوي أو دلالي يشير إلى تبدل المحور.ومن ثم، فإن قراءة “لا غالب ولا مغلوب” خارج هذا السياق، تعد اقحاما تفسيريا لا تسنده بنية الخطاب، ولا منطقه الداخلي، حين استخدم عبارة “لا غالب ولا مغلوب”، مما يجعل هذا التأويل اقحاما غير مبرر.

استراتيجيا، يتضح أن الملك يبعث برسالة مزدوجة: أولا، تأكيد أن الحكم الذاتي هو أقصى ما يمكن تقديمه في ظل السيادة الكاملة للمغرب. ثانيا، فتح باب الحلول الواقعية، دون ان يشعر الطرف الاخر بالهزيمة الدبلوماسية، وهي الية شائعة في حل النزاعات الاقليمية عبر التاريخ.لا يمكن فصل عبارة “لا غالب ولا مغلوب” عن ملف الصحراء المغربية، لا سياقيا ولا لغويا. هي جزء من عرض مغربي متماسك، يجمع بين الوضوح في المبادرة، والمرونة في الاخراج الدبلوماسي. اما تأويلها بانها تتعلق فقط بالقضايا الثنائية الاخرى، فهو قراءة تأويلية زائدة، لا تجد سندا من منطق النص، ولا من قواعد التحليل الخطابي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى